عقوبات مخملية لكنها موجعة
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 14 ديسمبر 2020 - 9:10 م
بتوقيت القاهرة
يبدو أن قادة الاتحاد الأوربى الـ27 الذين أخفقوا، خلال قمتهم الأخيرة، فى تمرير مسودة اتفاق نهائى مع بريطانيا بخصوص مرحلة ما بعد «بريكسيت»، لتبقى النقاط العالقة بين شريكى الأمس كالصيد، وشروط المنافسة العادلة، والآلية المستقبلية لحل الخلافات، معلقة حتى حين، لايزالون مجبرين على إضفاء السمت المخملى على أية عقوبات قد تضطرهم سياسات إردوغان إلى فرضها على أنقرة.
فعلى غرار حزم سابقة من العقوبات الرمزية، وبعدما تبنت القمة الأخيرة رؤية مفوض السياسة الخارجية والأمن للاتحاد الأوربى جوزيف بوريل بشأن الضغوط المتدرجة على أنقرة لحملها على تغيير سياساتها الأحادية والتخلى عن أنشطتها الاستفزازية غير المشروعة بشرق المتوسط، انحصرت العقوبات الأوربية الجديدة فى إجراءات فردية تستهدف لائحة تضم شركات ومديرين تنفيذيين منخرطين بأعمال الحفر والتنقيب عن الغاز لصالح شركة TPAO التركية للمسح الجيولوجى، وتتضمن حظرا لسفرهم وتجميدا لأصولهم، يتولى بوريل إعدادها خلال أسابيع، كما يحق له توسيعها لتشمل المزيد من الشخصيات والشركات، حالة مواصلة تركيا ممارساتها العدوانية إلى حين التئام القمة الأوربية نهاية مارس المقبل.
قدر استطاعتهم، التزم القادة الأوربيون سياسة ضبط النفس وتحييد الإلحاح اليونانى القبرصى فى تغليظ العقوبات المقترحة على تركيا، والذى تبدى هذه المرة فى المطالبة بحظر تصدير السلاح الأوربى إليها، سيما الغواصات الألمانية. حيث تجنبت القمة توقيع عقوبات اقتصادية على شاكلة إيصاد الأبواب نهائيا أمام المطلب التركى بتوسيع اتفاق الاتحاد الجمركى لعام 1995 مع أوربا، ليشمل الزراعة وإبرام اتفاق للتجارة الحرة، كما نأت عن فرض قيود على حركة النقد الأجنبى بين البنوك التركية ونظيراتها الأوربية، ولم تتطرق إلى إغلاق ملف مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد الأوربى، غير مكترثة بإقرار البرلمان الأوروبى نهاية نوفمبر الفائت، مشروع قرار يطالب القمة الأوربية الأخيرة بفرض عقوبات موجعة على أنقرة جراء ممارساتها الأحادية غير القانونية حيال قبرص، وانتهاكاتها فى شرق المتوسط. وأثناء توافقهم حول فرض عقوبات رمزية ضد أنقرة بسبب تنقيبها غير القانونى عن الغاز بشرق المتوسط فى يوليو 2019، ثم إقدامهم فى فبراير الماضى على تجميد أصول اثنين من مسئولى شركة النفط التركية وحظر سفرهما، تعمد القادة الأوربيون إرجاء الاقتراح القبرصى الخاص بإدراج مسئولين وشخصيات وكيانات تركية ضمن القائمة السوداء.
لما كان تمرير أية عقوبات يتطلب إجماع الأعضاء الـ 27 فى الاتحاد الأوربى، جنح إردوغان عشية القمة الأوربية الأخيرة للرهان على بعض ما اسماهم «القادة الأوربيين المعتدلين الموضوعيين»، الذين زعم أنهم لن يسمحوا للشطط الفرنسى اليونانى القبرصى بدفع الاتحاد الأوربى نحو اتخاذ قرارات تضر بمصالحه وعلاقاته الوثيقة مع أنقرة. ورغم إجماع دول الاتحاد على عدم إحداث تركيا تحولا إيجابيا فيما يتصل بسياساتها حيال شرق المتوسط وليبيا وسوريا وروسيا، فضلا عن ملف الديمقراطية وحقوق الإنسان، رفضت دول مثل ألمانيا وإسبانيا والمجر وإيطاليا وبلغاريا ومالطة، الذهاب بعيدا فى فرض عقوبات مغلظة على تركيا، تجنبا للتداعيات السلبية المتوقعة فيما يخص قضية اللاجئين والمهاجرين غير النظاميين، وتلافيا لأية ارتدادات اقتصادية ضارة. ففى حين يلامس حجم التجارة بين ألمانيا وتركيا عام 2019 وحده 40 مليار دولار، تعد إيطاليا وإسبانيا من كبار حائزى ديون تركيا التى ستتضرر من العقوبات، فوفقا لبنك التسويات الدولى، تمتلك البنوك الإسبانية حصة عظمى تبلغ 62 مليار دولار، فيما تمتلك مثيلاتها الإيطالية نصيبا بقيمة 21 مليار دولار.
وبينما ترمى العقوبات الأوربية إلى حمل أنقرة على تغيير سياساتها ووقف سلوكها العدوانى فى شرق المتوسط ومواضع أخرى، لا توحى السوابق التاريخية العالمية بما يبعث على التفاؤل فى هذا المضمار. فمن بين قرابة 170 حالة كونية شهدت فرض عقوبات، سواء من قبل الأمم المتحدة أو دول عظمى وتكتلات كبرى، لم يسفر إلا النذر اليسير عن تحقيق الغايات والأهداف التى من أجلها فرضت. الأمر الذى يشى بأن أية ضغوطات أو عقوبات من طرف الاتحاد الأوربى على تركيا بخصوص شرق المتوسط، قد لا تؤتى أكلها، إذ تضعه أنقرة فى صلب أمنها القومى وتعتبر حقوقها فى ثرواته غير قابلة للتنازل.
مستلهما استراتيجية النظام الإيرانى فى استثمار العقوبات لاستجداء التعاطف الشعبى واحتواء المعارضة بما يضمن له الاستئثار بالحكم لأطول مدى برغم استمرار الإخفاقات وتنامى الغضب الجماهيرى، طفق إردوغان يصور العقوبات الأمريكية والأوربية على أنها مؤامرة تستهدف النيل من سيادة تركيا واستقلاليتها وإجهاض تجربتها النهضوية، مشيرا إلى أن بلاده تتعرض منذ العام 1963 لعقوبات أوربية لكنها تصبر ولا تخضع. مؤكدا أن تركيا ستواصل بكل عزم وثبات صون حقوقها وحقوق القبارصة الأتراك بشرق المتوسط حتى النهاية، ودونما اكتراث لأية عقوبات يفرضها الأوربيون، بما فيها تلك المرتقبة فى قمة مارس المقبل.
وبينما تبدو مخملية ورمزية إلى حد بعيد، لم يخل الإجماع الأوربى على حزمة العقوبات الجديدة ضد تركيا من رسائل وإشارات بالغة الأهمية، أبرزها: تأكيد صلابة واستمرارية مبدأ «التضامن الأوربى»، وتوافق الأوربيين مجتمعين مع واشنطن والناتو بشأن ضرورة لجم الخروقات التركية على أكثر من صعيد، حسبما أكدت المستشارة الألمانية ميركل والرئيس الفرنسى ماكرون. كذلك، طوى تزامن العقوبات الأوربية مع أخرى أمريكية بموجب قانون «كاتسا»، والتى مررها الكونجرس ضمن مشروع قانون التمويل الدفاعى، ردا على اقتناء أنقرة لمنظومات «إس 400» الصاروخية الروسية، وتعد أشد قسوة كونها تستهدف إدارة الصناعات الدفاعية التركية ورئيسها اسماعيل دمير، وشركات تصنيع السلاح التركية، كما قطاعات اقتصادية وعدد من رجال الأعمال، بين ثناياه دلالات موحية. فمع اشتداد وطأة الأزمة الاقتصادية التى نغصت معيشة الأتراك، حتى أفضى مجرد تسريب خبر العقوبات إلى هبوط الليرة التركية بنسبة 1.25 %، بالتزامن مع احتلال تركيا المرتبة التالية بعد الولايات المتحدة فى أعداد إصابات ووفيات كورونا، أضحت إمكانية مراجعة إردوغان لحساباته أقرب من أى وقت مضى.
فعلى وقع العقوبات الأوربية والأمريكية المتلاحقة، بدا الرئيس التركى قلقا ومستكينا. فبعدما ألمح فى اعقابها إلى التعويل على نهج مغاير ربما تتبناه إدارة بايدن إزاء بلاده، مضى فى إطلاق إشارات التهدئة والمهادنة لامتصاص غضب بروكسيل وواشنطن. وعقب سحبه سفينة المسح الزلزالى ثنائى الأبعاد «عروج رئيس» المثيرة للجدل والتى بدأت التنقيب عن الغاز جنوبى جزيرة كاستيلوريزو اليونانية، برفقة فرقاطات تركية منذ العاشر من أغسطس الماضى، وإعادتها إلى ميناء أنطاليا التركى قبل أيام من انعقاد القمة الأوربية، أعلن إردوغان أنه لا يتصور بلاده إلا جزءا من أوروبا، وأن أية مشكلة مع دول أو مؤسسات لا يمكن حلها إلا بالحوار، داعيا اليونان إلى استئناف المفاوضات الاستكشافية المتوقفة منذ 2016. وتطلعا منه لتقليص حدة التوتر مع فرنسا، التى تقود معسكر الصقور ضد بلاده داخل الاتحاد الأوربى، أجرى وزير الخارجية التركى اتصالا هاتفيا بنظيره الفرنسى عشية القمة الأوربية الأخيرة، ليعرض التفاهم.
وفى ضربة قاصمة لمخطط إردوغان الهادف إلى التأسى بالنظام الإيرانى لجهة توظيف العقوبات فى تعبئة الجماهير وتدجين المعارضة بذريعة مجابهة المؤامرات الخارجية، لم تتردد المعارضة التركية فى استثمار التأزم الراهن لتعرية الفشل السياسى لنظام إردوغان توطئة للإطاحة به. فبعدما حملته مسئولية التدهور الاقتصادى الذى فاقمه توالى عقوبات أوربية وأمريكية تمخضت عنها سياساته العدوانية وأنشطة التنقيب المكلفة وغير المجدية والمشوبة بعيوب تقنية شتى، عن الغاز بشرق المتوسط، طالبت المعارضة إردوغان بالرحيل أو إجراء انتخابات مبكرة. وما إن اندلع طوفان العقوبات الأخيرة ليعصف بأنقرة، حتى انبرى حزب الشعب الجمهورى، أعرق وأهم فصائل المعارضة، فى إعلان التبرؤ من سياسات إردوغان العدوانية، التى استجلبت غضب الشركاء الأوربيين والأطلسيين، مبديا عزمه مواصلة الحوار مع بروكسيل وواشنطن، وإن اعتبر تجاوبا مع تلويح الرئيس الأمريكى المنتخب جو بايدن، إبان حملته الرئاسية، بمؤازرة المعارضة التركية للإطاحة بنظام إردوغان المستبد من خلال الانتخابات.