غزل القصص
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 14 ديسمبر 2022 - 8:20 م
بتوقيت القاهرة
أحب التقاطعات، أحب اكتشاف أصدقاء مشتركين بينى وبين أشخاص ظننت فى بادئ الأمر أن لا شىء يربطنى بهم. أحب قصص الجدات العابرة لحدود بلاد المشرق وما بعدها، الجدة الدمشقية فى نابلس فقد تزوجت تاجرا كان يتردد على محل والدها فى سوق عتيق وحافظت على لهجتها ونكهات مطبخها حتى وصلتنى تعليقات أحفادها عن كلمات تقولها وقصص يريدون منى تأكيدها بما أننى أيضا من دمشق. أحب قصة رجل يهودى من حلب يعيش فى نيويورك تعرفت عليه من خلال مجموعة تتشارك الشغف بالمطبخ فحكى لى عن مدينة والدى وأشخاص سألت والدى الحلبى عنهم وعرفهم، أو بالأحرى تذكرهم من سنوات طفولته هناك منذ أكثر من ستين سنة. أحب قصصا بدأت فى القاهرة وانتقلت إلى أماكن كثيرة فى العالم، وكأن القاهرة ترسل إلى السماء ألعابا نارية تلمع وتبهج وترمى نجوما فوق البيوت.
• • •
تظهر لى إعلانات مختلفة ولا علاقة بينها على شبكات التواصل الاجتماعى. الخوارزميات تستمد المعلومات من على شبكات التواصل الاجتماعى وكأنها من وحى السحر فعلا! تستهدف الإعلانات أصحاب الحسابات الزرقاء على أساس التقاطعات، أى تظهر الإعلانات وفق ما يفهمه الذكاء الاصطناعى عنى وعن اهتماماتى من خلال مراقبة ما أتابعه. هكذا إذا أنتقل بين صور سيدات يكحلن عيونهن بطريقة تخفى خيوط الزمن عند أطراف الوجه، وصور أغلفة كتب صدرت حديثا عن السياسة والأدب، ثم مقاطع فيديو عن شد عضلات الوجه دون جراحة، وأخرى عن الرقص الشرقى عبر السنوات فى مصر مع التركيز على تحية كاريوكا وسامية جمال على اختلاف مدارسهما، ثم مقطع عن أدوات المطبخ وفيديوهات كثيرة عن طريقة خبز كعك البرتقال والقرفة.
• • •
قطعة قماش مطرزة بحب وعناية على يد سيدة لا أعرفها فى مشغل فى غزة تصل إلى صاحبتها فى برلين. كلمات أسمعها فى رسالة مسجلة من صديقة تشرف على التطريز الفلسطينى ترسلها وهى فى زيارة فى القاهرة. صورة لشجرة عيد الميلاد فى بلد أوروبى يغطيه الثلج عليها ألعاب صغيرة طرزتها الأنامل الفلسطينية وحملتها صديقة مرت من عمان حيث أعيش فى طريقها إلى الشمال البارد.
• • •
تشبيك مستمر، ربط أطراف خيوط ملونة أسحبها من كرات الصوف فتصبح قصصا منسوجة. هل تعرفون آلة «النول» التى ينسج بها الحرير التقليدى فى سوريا؟ أظن أننا نتشارك آلة النول العملاقة، يدخل كل منا خيوط حياته فيها فتتشابك مع خيوط الآخرين حتى نجد أنفسنا فى تجمعات قد نستغرب أننا فيها أصلا معا. فى الأشهر الأخيرة أدخلت خيوطا كثيرة فى «نول القصص»، بعضها ملونة وبعضها باهتة وبعضها تلمع كالذهب والفضة. اختبرت أثر الألوان والبريق على النسيج وهو فى طور الغزل. رأيت أن بإمكانى أن أسحب خيطا أحمر أعبر فيه عن غضبى، ثم أبث الأزرق والأخضر فى لحظات الصفاء، قبل أن أدخل خيطا من الذهب فتلمع قصتى، أو قماشتى، وقت الغروب فى مدينة عتيقة. مع كل خيط أهمس بكلمات تدخل على القصة فأرى وجوها وأسمع أصوات من أحب تتداخل حتى أنسى كيف تعرف فلان على فلانة ثم أتذكر أننى نسجتهما معا على آلة النول خاصتى.
• • •
أمضيت معظم هذه السنة أغزل قصتى وأدخل عليها قصص الأصدقاء ممن أعطونى خيوطهم. أيقنت أننى أحب الغزل، غزل القصص، أحب الحبكة ومن ثم عقد الخيط إيذانا بانتهاء هذا الخط قبل الانتقال إلى الدرزة على الخط التالى. أحب وضع النقاط على منسوجة ثم إبعادها قليلا عن وجهى لأرى الرسمة كاملة وأقرر أننى سأغير المسار، مسار الدرزة، وأحول اللون إلى الأصفر فقد دخلت الشمس على قصتى ولم تعد مظلمة.
• • •
اليوم، وقد اقتربت سنة أخرى من الانتهاء، لدى منسوجة رائعة تقاطعت فيها قصة كبيرة مع حكايات حول المطبخ والضيوف وأسئلة حول ألوان الكحل المناسبة لكل عمر. أنا فى السطر الأخير، خيطى لونه أزرق فيروزى، آخذ وقتى فى آخر قطبة على قطعة النسيج. أمامى طريق ها أنا أضع عليه علامات بالأزرق أدقها وسط أشجار الليمون. التقاطعات تعنى أن ثمة طريق محفوف بأشجار الحمضيات أمشى فيه وأنا أسمع أغانى تغطى نصف قرن تقريبا وأتوه فى مدينة طابعها متوسطى ووجوه أهلها مألوفة. رائحة القهوة تغطى الحكاية، فهل من قصص دون قهوة؟
• • •
بين من تعرفت عليهم هذه السنة ومن رافقونى من حيوات سابقة، قطعة النسيج جاهزة لأمدها على الحائط أمامى وأشعر بامتنان عميق أن فيها من الألوان ما سوف يذكرنى بأيام داكنة مررت بها وخرجت إلى الشمس. سنتى المنصرمة فيها عقد بالخيوط تتبعها درزة ملونة محكمة. هى سنة تقاطعت فيها أحلام وكوابيس مع ارتباك وتردد ثم شعور بالانفراج. ربما ما تعلمته هو أن لكل سنة قطعة نسيج لن أراها كاملة سوى فى الآخر مهما حاولت، إذ تستمر القصص والأحداث بالتقاطع بينما يدخل أحدهم الخيوط إلى آلة النول الكبيرة فيخرج منها «غزل القصص».
كاتبة سورية