دافنينه سوا
نيفين مسعد
آخر تحديث:
الخميس 14 ديسمبر 2023 - 7:00 م
بتوقيت القاهرة
على هامش إحدى الندوات العربية التقيتُ سياسيًا ليبيًا مخضرمًا كنتُ قد استمعتُ باهتمام لمداخلاته في الندوة، واستوقفتني فيها موضوعيته وقدرته الرائقة على التحليل. وكما هي العادة في كل اللقاءات الأولى التي تتم بين أشخاص لا يعرفون بعضهم البعض يكون البحث عن أصدقاء مشتركين بمثابة الجسر الذي يسهّل العبور في الاتجاهين: رايح جاي. كان صاحبنا قد أمضى عدة سنوات في مصر وخالط أهلها وتذوّق فنها وطعامها ونكاتها ما سمح له بتكوين شبكة واسعة من العلاقات استمرّت حتى بعد أن ترك مصر، وشرّق وغرّب في كل اتجاه حول العالم. وهكذا كان من السهل جدًا العثور على أصدقاء مشتركين، فالتخصص واحد وأظن أيضًا الميل السياسي، وعندما أتى صاحبنا إلى أحد هؤلاء الأصدقاء الذي تربطني به علاقة ممتازة، سألني: هل تعرفين فلانًا؟ رددتُ: بالطبع أعرفه، هو شخص نبيل له من اسمه نصيب، دع عنك ثقافته الواسعة وتواضعه الجمّ. ارتاح صاحبنا لإجابتي ورجع بظهره إلى الوراء قائلًا في ثقة: أنا وصديقنا النبيل المشترك دافنينه سوا! أراد الرجل أن يؤكد لي على متانة علاقته بصديقنا المشترك فاستخدم تعبيرًا مصريًا دارجًا لكن في غير موضعه، فنحن نقول دافنينه سوا عندما يكون هناك سر بين اثنين يخفيانه عن الجميع، وأحيانًا نستخدم هذا التعبير للردّ على محاولة أحد الأشخاص الظهور بخلاف حقيقته، وفي الحالتين فإننا لا نلجأ للتدليل بهذا التعبير على عمق الصداقة بين اثنين. لكن عندما استخدَم صاحبنا التعبير المصري في سياق غير سياقه المعتاد فإنه جعلني أفكر في وجاهة استخدامه له، وأجد أن دافنينه سوا وارد جدًا أن يشير إلى قوة العلاقة إلى حد اشتراك اثنين في دفن شئ أو أشياء معًا، فضمير الغائب أي الهاء يحتمل كل التفسيرات حتى ما يبدو منها بعيدًا عن الذهن.
• • •
عندما أُعرت للعمل في إحدى المؤسسات الأكاديمية العربية في عزّ ازدهارها خلال العقد الأول من الألفية الثالثة، كان طلاّب المغرب العربي وبالذات الطلّاب الجزائريون يشكّلون عددًا يعتّد به من مجموع الطلاب لنقل حتى عام ٢٠٠٩ إلى أن نشبَت أزمة كرة القدم الشهيرة بين البلدين فذهب الطلاب حتى قبل أن يتمّوا دراستهم. وكان من المعتاد أن يبدأ يومي بوجه لخميسي شيبي رحمة الله عليه أو أسامة بوشماخ أو محيي الدين حرشاو وهو يطّل عليّ من فتحة صغيرة من باب مكتبي لإلقاء تحية الصباح على هذا النحو المحبّب: صباح النور أستاذة مع تفخيم التاء. في البداية كانت هذه التحية تصيبني ببعض الارتباك لأننا اعتدنا كمصريين أن يكون الردّ بصباح النور تاليًا على من يبادئنا بصباح الخير، دون تفسير واضح لذلك، وحتى دون تقليد لصباحات الأجانب التي تبدأ بصباح الخير ويُرّد عليها بصباح الخير أيضًا. أما وقد كانت البداية بصباح النور فماذا أنا فاعلة وبماذا أردّ؟ أخَذتُ بعض الوقت لأجيب بشكل معكوس أو من الآخر للأول قائلة: صباح الخير، لكني لم أكن أشعر بارتياح. ثم بالتدريج أخذتُ في الاعتياد على الأمر وألفته، ثم وجدتُ من المنطقي أن يقترن الصباح بنور ربنا قبل أن يأتي معه الخير، إلى أن تقلّص بشدّة عدد طلاب المغرب العربي حتى لم يعد يتجاوز بضع آحاد فلم أعد أستأنس بصباحات النور المحبّبة التي وحشتني كما وحشني كل طلابي السابقين، وانتقلَت المؤسسة من حالٍ إلى حال.
• • •
في سياقٍ آخر كنتُ أتبضّع من بيروت حين كانت الحال هناك رَوَاق كما يقولون وكان التبضّع متعة في ست الدنيا، تدخل على محّل من المحّلات مهما كان صغيرًا فتجد الخدمة ممتازة، والرائحة عطرة، والبضائع مِذوقة، والمكان كله نظيف، فإذا ما كان في جيبك مصاري فلن تخرج إلا مشتريًا حبّة أو حبّتين من هذا الموديل أو ذاك. في حينه لم يكن الچاكت الذي اخترته متوفّرًا بلوني الأزرق الزَهري المفضّل فوعدتني البائعة البشوشة بأن توفّر لي طلبي المحدّد صباح الغد لكن عليّ أولًا أن أدفع: رعبون. ومع إنني فهمت المطلوب وهو دفعة تحت الحساب لتأكيد جدية الحجز أو عربون كما نقول في مصر، بل وكما شرحه قاموس المعاني بقوله "العربون هو ما يُعجّل من الثمن على أن يُحسَب منه إن مضى البيع، وإلا استُحّق للبائع"- إلا أنني استغرَبت كلمة رعبون لأن الأصل فيها أنها مشتقّة من الرُعب وبالتالي لا محّل لها في موقف به بيع وشراء. وهي كلمة تختلف عن مصطلح دافنينه سوا الذي يحتمل أكثر من معنى، كما تختلف عن بدء تحية اليوم بصباح النور التي يوجد لها منطق ولديها ما يبررها، فالرعبون شئ والعربون شىء آخر.
• • •
هذه المواقف الثلاثة أعادت إلى ذهني فكرة طالما راودتني على فترات زمنية متقطّعة، وهي فكرة إعداد معجم عربي يشتمل على الجُمل والمصطلحات العامية المتداولة في بلداننا العربية. وكان في ذهني أن يتم تقسيم هذا المعجم إلى عدّة أبواب وفق مجموعة من المعايير التي يتفق عليها فريق البحث الميداني- وهو لابد أن يكون فريق عمل عربي كبير يتولّى جمع البيانات من مختلف بلداننا العربية. ومن المعايير التي يمكن التفكير فيها مثلًا معيار تعامل لهجاتنا المحلية مع المناسبات الاجتماعية المختلفة، السعيد منها والحزين، وهنا سنجد اتفاقًا واختلافًا كبيرين في مناسبة كمثل مناسبة الأعراس بين دولة وأخرى وفي إطار نفس الدولة من منطقة جغرافية لأخرى. بطبيعة الحال أتفهّم مشروعية السؤال عن جدوى مثل هذا المعجم في الوقت الذي تتخاطب فيه الأجيال العربية الناشئة باللغة الإنجليزية ونادرًا ما تتحدّث باللغة العامية، لكن إجابة السؤال واضحة في ذهني وهي أننا لو لم نتدخّل لمساعدة تلك الأجيال على استخدام المفردات العربية بشكل مبسّط فإننا نكون مخطئين في حقها ونوشك أن نجعلها تنصرف عن اللغة العامية كما انصرفَت عن اللغة الفصحى. كما يوجد لهذا المعجم هدف آخر كبير هو التقريب بين اللهجات العربية، وهو هدف أظنه لا يستعدي كثيرًا الخائفين من العروبة، فأن نكون قادرين كعرب على التفاهم، ونكون منفتحين على لهجات بعضنا البعض فهذا لا يمثل تهديدًا كبيرًا لأحد. وقد سبق لي أن شاركتُ في تسعينيات القرن الماضي في مشروع ضخم رعاه السلطان قابوس بن سعيد شخصيًا عن الأسماء المتداولة في بلداننا العربية، وكان مشروعًا رائدًا ورائعًا ومفيدًا جدًا لأنه وضع أمام عيوننا خريطة متكاملة للأسماء العربية بجذورها ومعانيها وأماكن انتشارها.
• • •
لغتنا العربية جميلة ولهجاتنا المحلية كذلك، وهذه وتلك جديرة منّا بالاهتمام.