القاهرة.. مدينتى وثورتنا الجزء الأولــ١٨ يومًا
أهداف سويف
آخر تحديث:
الخميس 15 يناير 2015 - 7:55 ص
بتوقيت القاهرة
الجمعة ٢٨ يناير، الخامسة مساء
النيل بلون الرصاص. ساكن. تتناثر فى مياهه حرائق صغيرة. ابتعدنا عن الشاطئ المجاور لفندق هيلتون رمسيس ونتجه إلى عرض النهر. سلمى ومريم، بنات أخى، معى فى المركب الصغير. نبتعد عن الشاطئ فتخف عنا حدة السعال والشرقة، نستطيع التنفس، وإن كان النفس يؤلم، ونستطيع أن نفتح عيوننا ــ
لنرى غسقا معتما، يثقله الغاز. أمامنا، نرى كوبرى قصر النيل كتلة من البشر، الكل فى حراك، والكل مكانه. ننظر إلى حيث كنا من دقائق، على كوبرى ٦ أكتوبر، ونرى بوكس قوات أمن مركزى مشتعل، يحاول التراجع، يطارده أربعة من الشباب يهاجمونه ويضربون زجاجه. البوكس يتراجع فى ذعر، يتراجع شرقا، نحو بولاق أبو العلا. وراءنا تسقط فى النهر كرة من النار، بؤرة جديدة من اللهيب المتقد فى المياه. السماء رمادية ــ أى فرق بين ما نراه الآن وبين الغسق الرائق الذى نعتاد رؤيته على النيل فى هذا الوقت من النهار. دار الأوبرا كتلة مظلمة عن يميننا، وتكاد لا تتبين الارتفاع الرشيق لبرج الجزيرة. نحن بعد لا نعرف أن أنوار القاهرة لن تضاء الليلة.
صيحة عظيمة تتصاعد من كوبرى قصر النيل. أنظر إلى سلمى ومريم فتوافقان. أقول للمراكبى أننا غيرنا رأينا: لن نعبر النهر إلى الجيزة، سنظل ناحية القاهرة، ونريده أن ينزلنا تحت كوبرى قصر النيل.
وهكذا ظهرنا فجأة، أنا وشابتان جميلتان، فى ذلك الممر الذى يصل الكورنيش من تحت كوبرى قصر النيل، وسط عربات الأمن المركزى التى تتسابق لتخرج من المدينة. زعق الرجال والشباب المتكدسون على السور الذى يعلونا «إجروا، إجروا!» وأمسكوا لحظات عن رمى العربات بالطوب إلى أن جرينا عبر الممر ووصلنا إلى حيث نستطيع أن نصعد إلى الشاطئ وننضم إلى جموع الناس عند مدخل الكوبرى.
ذلك اليوم، قطعت الحكومة ــ النظام الذى حكمنا ثلاثين عاما ــ قطعت اتصالاتنا: الهواتف المحمولة لا تعمل، وشبكة الإنترنت معطلة على نطاق مصر كلها. ربما أفاد هذا فى تركيز أذهاننا، إرادتنا، طاقتنا: كان كل واحد منا فى مكان واحد، ملتزم به تماما، لا يعرف شيئا عن أى مكان آخر، يدرك أن عليه أن يفعل كل ما فى وسعه لهذا المكان، واثق أن الآخرين فى الأماكن الأخرى يفعلون الشىء نفسه لأمكنتهم.
تسلقنا المنحدر فوجدنا أنفسنا جزءا من الجماهير. حين رأيناهم عن بعد بدوا كتلة واحدة، صلبة. عن قرب كانوا أفرادا، أفرادا كثر، بينهم مساحات صغيرة تستطيع أن تجد لنفسك مكانا فيها. وقفنا على الجزيرة المرصوفة وسط الطريق، قصر النيل وراءنا، والتحرير أمامنا، ونحن نقوم بذلك الفعل الذى يجيده المصريون، والذى لم يدخر النظام جهدا فى سبيل تدمير قدرتهم عليه: ضم الصفوف، التواجد كأفراد هم خلايا جسم واحد، ضخم، متحد الهدف والمشروع، مجهود جمعى كبير، وهذه المرة كان مشروعنا هو أن ننقذ ونستعيد الوطن. وقفنا، أنا وبنتا أخى، على تلك الجزيرة، وانضممنا، فى تلك اللحظة، للثورة.
*****
قبلها بشهر، بأسبوع، بيومين، لم يتوقع أحد كل هذا. نعم، كان هناك نداء لاتخاذ «عيد الشرطة»، ٢٥ يناير، مناسبة للنزول والاحتجاج ضد عنف الشرطة، ولكن ما أكثر المظاهرات والاحتجاجات التى نزل الناس إليها فى الأعوام الماضية، لم تبدُ هذه المناسبة متميزة عن غيرها. من كان منّا فى مصر انتوى النزول من باب المشاركة والحفاظ على روح المقاومة، أما من كان فى الخارج فقال خيرها فى غيرها.
عن نفسى، كنت فى الهند، فى مهرجان جَيْبور الأدبى، ومساء الرابع والعشرين من يناير أجرى معى تليفزيون تِهِلكا الهندى لقاء قلت فيه:
«نحن نشعر منذ مدة طويلة أن مصر لا تدار لمصلحة المصريين، وأن الدافع الأول لتصرفات الذين يحكموننا هو أن يظلوا فى السلطة لكى يظلوا فى موقع استغلال البلاد ونهبها. والدعم الأساسى لهم يأتى بالطبع من القوى الغربية وبالذات الولايات المتحدة، والثمن الذى يدفعونه لهذا الدعم هو أن يتبنوا ويمارسوا سياسات هى بالأساس فى صالح إسرائيل.
نرقب ما يحدث فى تونس ويملؤنا بالحماس. نسمع الأسئلة: هل ستتحرك مصر؟ ونسمع لكن مصر كبيرة، مصر ثقيلة. وفى الحقيقة لا يبدو أن الحكومة المصرية ستسمح بأى تغيير سلمى أو ديمقراطى. إذن ما الذى سوف يحدث؟ هل سنجد أنفسنا فى موقف ينفجر فيه الناس؟ هل سنرى، بالفعل، الدماء فى الشوارع؟ هل سينزل الجيش؟ لا أحد يعرف. الأجواء متوترة جدا، وهناك إحساس بالخطر ــ لكن النشاط السياسى الذى يحدث يحدث فقط فى نطاقات معينة ومحدودة، وهو فى غالبيته العظمى من الشباب وفى الواقع بدون أى قيادة، لكنه موجود ويُبقى على حياة وحيوية الشارع.
«فى السنين الخمس الماضية شاهدت مصر احتجاجات واضطرابات فى الحياة المدنية بشكل غير مسبوق. لكن كيف سيندمج كل هذا أو يتكتل؟ وأى الأشكال سيتخذ؟».
عندنا اليوم بدايات الإجابة، وأنت، يا قارئى - وأنت تقرأ هذه الكلمات - عندك الإجابة الأكثر نضجا عن هذا الذى أسطره فى صيف عام ٢٠١١. لن أحاول التكهن بأخبار مصر التى تقرأها فى جرائدك اليوم، ولكن أيا كان شكل مصر وأحوالها وأنت تقرأ كلماتى، فهذه قصة بعض اللحظات التى أدت إلى ذلك الشكل وإلى تلك الأحوال.
وهى أيضا، بشكل ما، قصتى، وقصة مدينتى، المدينة التى أعشقها، والتى حزنت لها وعليها طوال عشرين سنة أو أكثر. حالتى ليست متفردة، لكن مدينتى متفردة. طرقاتها، نيلها، بناياتها، آثارها، تهمس لنا، لكل واحد من ساكنيها المشاركين فى هذه الأحداث التى ترسم حياتنا وحياة أولادنا. المدينة تهمس لنا، تمسك بأكمامنا، وتقول: وُلِدْتِ هنا، وفى هذا الممر الهادئ أمسك فتى بيدك لأول مرة، هذا الطريق تعلمتِ فيه قيادة سيارة فولكس فاجن قديمة، هذا القصر يصوره كتابك المدرسى وفى حوشه عرابى باشا يواجه الخديو توفيق، وهذا هو الموقع الذى تحكى أمك كيف وقفت فيه مع أبيك يرقبان الحريق يشب فى المدينة. تُقَرِّب القاهرة شفتاها من آذاننا وتهمس، تتأبط ذراعنا فى حميمية، تشدنا إليها فتسرى فينا دقات قلبها ويملأ عطرها أرواحنا فنسير إلى جانبها، نوائم خطواتنا على خطواتها، وتتملى عيوننا وجهها الجميل الجريح، ونهمس بدورنا: ذكرياتك ذكرياتنا، ومصيرك مصيرنا.
عشرون عاما وأنا أتجنب الكتابة عن القاهرة. أخاف الألم. لكن المدينة ظلت دائما قريبة منى، تشرئب لتنظر من وراء كتفى، ترفع أمام عينىّ العدسة التى أفسر من خلالها العالم، تبعث بأصدائها فى كل ما أكتب. كان هذا يؤلمنى، ثم اختفى الألم: لأن مدينتى عادت إلىّ.
«مصر» هو اسم بلدنا. و«مصر» هو الاسم الذى يطلقه المصريون على القاهرة. ويوم الثلاثاء، أول فبراير، وقفت أرقب رجلا يرقب المشهد فى التحرير وعلى وجهه ابتسامة واسعة: كانت الشمس مشرقة وكان الناس فى كل مكان، سواء كبارا وصغارا، أغنياء وفقراء، يتناقشون، ويتمشون، ويغنون، ويلعبون، وينكتون، ويهتفون. ثم قالها الرجل، قالها بصوت عالٍ: «والله زمان يا مصر، وحشتينا!».