هذا أيضا سوف يمر..
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 15 يناير 2020 - 10:05 م
بتوقيت القاهرة
تحمل بعض اللحظات شحنة هائلة من الأحداث والضغوط فتبدو اللحظة على هيئة غيمة ممتلئة بالمطر على وشك أن تنفجر فوق رأسى، فى تلك اللحظات يبهت العالم الخارجى وتضعف الصورة الكبرى بينما تتضح بعض التفاصيل الصغيرة بشكل شبه كاريكاتورى، من منا لم يبدأ أحد أيامه بالتساؤل إن كانت الساعات الأربع والعشرون القادمة كافية للتعامل مع كل ما ينتظره خارج السرير؟
***
أذكر وظيفة قدمت للحصول عليها فى بداية حياتى المهنية تضمن امتحانها سؤالا حول ترتيب الأوليات، واعتمد الطرح على خلق جو من التوتر من خلال إضافة مهام مختلفة بعضها مرتبط بالوظيفة وبعضها ذو طابع شخصى (كأن يمرض أحد أفراد الأسرة مثلا أثناء اجتماع مصيرى فى العمل)، ويشب حريق قرب المكتب، وأمور أخرى من شأنها أن تربك الموظف، وكان ذلك طبعا جو مختلق ضمن الامتحان هدف إلى تقييم قدرة من تقدم للوظيفة على التعامل مع المتطلبات المتغيرة والمختلفة والمتتالية والتى يتخللها تطورات لا علاقة لها بالعمل لأنها تتعلق بحياة الموظف الخاصة.
***
كثيرا ما أعود إلى تلك الساعة التى أمضيتها فى مكتب صغير لا شبابيك فيه منذ قرابة العشرين سنة حين يمر يوم محمل بالأحداث المتضاربة والمتنافسة. أتخيل علبة يرمى فيها أحدهم ــ المدير أم القدر؟ــ ورقة بعد أخرى عليها تعليمات لا تنتهى: حريق فى المبنى: إجلاء المكان، ابنتك مريضة: الذهاب إلى المشفى، إضراب الموظفين: التعامل مع الإعلام، تقرير حول قصف المدنيين: مراجعة قانونية، اختفاء جهاز الكمبيوتر من المكتب أثناء الليل: هل تمت حماية البيانات؟ أظن أن الامتحان الذى دام ساعة قبل سنوات كان أكثر تدريب التصاقا بما يعيشه أى شخص فى منتصف طريقه المهنى، رغم أننى لم أعلم يومها أنه تدريب واقعى يفرض على الشخص أن يبقى رأسه فوق مستوى الماء بينما يحرك أطرافه تحتها كى لا يغرق.
***
فى وسط كل تلك الإثارة، يصل صوت هادئ من مكان ما فى الذاكرة أو ربما فى الجو ليقول: هذا أيضا سوف يمر.. لا أعرف مصدر الجملة، لا أرى صاحبها أو صاحبتها، لا أتقبل تلك الفوقية التى ينظران بها إلى أحداث حياتى. سوف يمر؟ أتتحدثون عن قطار؟ قد يمر من فوقى ويكسر منى أجزاء لن أعرف كيف أعيدها إلى مكانها، أتفهمون ذلك؟
***
يجلس الصديق الحكيم فى كرسيه المعتاد فى بيتى، يستمع دون أن يعلق، على وجهه مسحة ابتسامة فيها تفهم وفيها القليل من المرح، فى نظرته دعوة للحديث، فى حضوره مساحة للنقاش. أعدد الأحداث العامة والخاصة، أتفاجأ بزخمها حين أعددها أمامه، أنظر إليه بحثا عن ردة فعل أريدها أن تتفاعل مع هلعى وتؤكد لى أن الحمل ثقيل. أنتظر كلمات تخرج أخيرا من الصديق: هذا أيضا سوف يمر، يقول.
***
سوف يمر القطار من فوق أشخاص ومدن بأكملها، سوف يدوس علينا جميعا فينجو من يستطيع أو من يحالفه الحظ. سوف يخرج القطار من مساره عدة مرات ويمشى خارج سكته فيهلع الناس من حوله ثم يعود إلى انضباطه فى السكة وفى المواعيد. سوف تضطرى أن تتمسكى بالسكة أحيانا وأن تخرجى منها أحيانا أخرى حفاظا على بعض الاعتبارات التى لن تعرفيها حتى يقترب منك القطار فتقررى فى وقتها أنك لا تريدين أن يهرس عظامك. وبعد كل الزخم والإثارة، سوف ترين أن أنه قد مر، وأنك أصبحت فى مرحلة ما بعد مرور القطار.
***
أنظر إلى الصديق فأرى مكانه وجه صديقة، هل بدلا أماكنهما؟ تسحب نفسا من سيجارة وتبتسم. لقد مر القطار من فوقها ومن قربها ومن حولها منذ سنوات هى الأخرى. تستمع دون أن تحكم، تمتص دون أن ترشد، تفتح عقلها وآذانها دون أن تقاطعنى، ثم تقول «حيعدى يا تمارا». أنت أيضا يا صديقتى؟ ألا ترين أن العالم يغرق من حولى؟ ربما، تجيب، لذا فعليك أن تتمسكى بما سوف يقيك الغرق الآن، فى هذه اللحظة فقط، لأن الباقى سوف يمر.
***
لنعيد ترتيب الأولويات إذا: البقاء بعقلى، البقاء بقلبى، الحفاظ على من أحب من حولى، التعامل مع الأمور ببعض المسافة دون ردود أفعال تلقائية وسريعة، التواصل مع الأصدقاء، أن أتأكد أن ثمة شبكة متينة سوف تقينى من الغرق، أن تسحبنى يد صديقة فى اللحظة الأخيرة من على السكة قبل مرور القطار، أن أمد يدى لمن سوف يمر القطار بدوره من فوقه، أن أمضى بعض الساعات الثمينة مع صديق لم أره منذ سنوات.
***
كم مرة قطعت على نفسى هذه الوعود من قبل ولم أطبقها؟ تسألنى الصديقة إن كنت أطبقها فأسكت. تقول إن ذلك لن يمر، شعور قادم سوف يتملكنى ويذكرنى بترتيب الأولويات، حتى أجلس يوما ما فى مكانها أستمع إلى صديقة تحكى عن قطار حياتها فأقول لها بدورى إن ذلك أيضا سوف يمر.