دولة أم تنظيم عصابى؟
حسام عيسى
آخر تحديث:
الثلاثاء 15 فبراير 2011 - 11:30 ص
بتوقيت القاهرة
اليوم وقد تحقق لثورة الشعب المصرى بقيادة هذا الجيل الصاعد من بنات وأبناء هذا الشعب أول وأعظم انتصاراتها، بإسقاط دولة السلب والنهب، لابد أولا أن ننحنى إجلالا وتعظيما لشهداء هذه الثورة، فهم فى البداية والنهاية طليعة صناع هذه الثورة، وعقلها الخلاق وقلبها الشجاع، وسيبقون فى ضمير أمتنا رمزا هائلا لعزة هذا العشب وكبريائه وكرامته ونبله.
ولابد أيضا أن نقف احتراما لمقام جيشنا المصرى الرفيع، الذى صان ثورة الشعب وحماها، ووقف فى اللحظة الحاسمة ــ لحظة سقوط الطاغية ــ إلى جانبها.
لقد كان نداء الثوار من اليوم الأول أن الجيش والشعب يد واحدة، وهو نداء يلخص بعبقريته تاريخ مصر الحديث كله، حيث كان الجيش المصرى دائما فى قلب الحركة الوطنية يتقدمها أحيانا ويجسد مطالبها، ويرعاها ويحرسها دائما.
ولكن هذا النداء يعنى أيضا أن الشعب اليوم يدرك جيدا ــ أنه فيما عدا القوات المسلحة ــ لم تعد مؤسسات دولة السلب والنهب التى سقطت صالحة للبقاء بحالتها الراهنة فى المدى المتوسط والطويل. وأن إعادة بناء مصر يقتضى إعادة لبناء جميع مؤسسات الدولة المصرية فى إطار جديد حدده الثوار بشعارهم حرية.. حرية، وهو ما يعنى أن المطلب الأعظم للثورة هو الحرية والديمقراطية وحقوق المواطن، وهو ما يعنى أن المطلب الأعظم، وأن هذا هو الإطار الكبير الذى يضم كل المطالب الأخرى وعلى رأسها العدل الاجتماعى.
لقد سقطت الدولة القديمة من الأيام الأولى للثورة. بعد أن ضرب العفن فى كل مؤسساتها، فسقط جهاز الشرطة.. شرطة التعذيب والقتل المنظم والرشوة العلنية التى كانت تتخذ شكل الجباية اليومية الصريحة.. هذا الجهاز الذى يشكل الخط الأول والثانى والثالث لحماية دولة السلب والنهب وضمان أمنها ضد كل مقاوم لفسادها.
كما سقطت فى الأيام الأولى حكومة رجال الأعمال الذين قاموا بأكبر عملية سطو على ثروات الأمة، وهى عملية يبدو معها النهب الاستعمارى لمصر فى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين من قبيل لعب العيال وسقطت العائلة الحاكمة التى فاقت ثروتها ثروات كل ملوك مصر المتعاقبين من محمد على إلى الملك فاروق.
وكان ذلك إيذانا بسقوط الدولة التى لم تكن دولة، وإنما كانت بالفعل وليس على سبيل المجاز تنظيما عصابيا محكما، يشترى ولاء أعضائه بأموال الشعب وأراضيه وبنوكه ولدوله وغازه وكأنها موارده السيادية، تنظيم عصابى قام بتفكيك الدولة على النموذج المملوكى يعطى لكل مملوك إقطاعية يتملكها بمن عليها، ينهبها ويحول نتاج النهب إلى بنوك أوروبا فى عملية إحقار دائم للوطن وللمواطنين.
تنظيم عصابى اخترق كل مؤسسات الدولة ابتداء من مؤسسات السلطة التشريعية لكل أجهزتها، وعلى رأسها مجلس الشعب حيث كان ترشيح نواب الحزب الوطنى تم بمقابل تحصل عليه قيادات التنظيم العصابى، ولمعت فى هذا أسماء فى الحزب الوطنى يعرفها الشعب كله، وسجلها علاء الأسوانى فى رائعته عمارة يعقوبيان وعرفت مصر نواب الدعارة ونواب المخدرات عن الحزب الوطنى، فى سابقة لم يعرفها أى نظام برلمانى فى العصر الحديث، حيث يكفل مبدأ سيد قراره ــ الذى نظر له رئيس مجلس الشعب أستاذ القانون فى أكبر مهزلة أخلاقية عرفها التاريخ المصرى بحمايتهم وتوفير الحصانة لهم.
أما إدارة العملية الانتخابية فقد تولتها جماعات البلطجية الممولين من قبل رجال الأعمال من أمثال أحمد عز وإبراهيم كامل ومحمد أبوالعينين تحت حماية جهاز الشرطة وتحول مجلس الشورى إلى مستودع يودع فيه من يريد النظام مكافأتهم لخدماتهم السابقة من قيادات الجهاز التنفيذى، والأحزاب السياسية الكارتونية التى صنعها النظام لتكون سندا له تمنحه الشرعية بمشاركتها فى انتخاباته الهزلية، وبالتحاور معه، والتآمر فى الكثير من الأحيان على الحركات الجماهيرية، وبلغ الهزل بالنظام إلى خلق أحزاب العائلة الواحدة، وهى أحزاب بلغ الفجر بها إلى حد التحاور مع النظام باسم ملايين المصريين الذين خرجوا لمساندة الثورة منذ 25 يناير الماضى وتحولت الأحزاب الشرعية فى مجملها إلى أجهزة تابعة لمباحث أمن الدولة تتلقى منها الأوامر دون حياد أو خجل.
كما ضرب العفن فى الجهاز الحكومى، حيث تحولت كل وزارة إلى عزبة يحكمها وزير بإرادته التى تعلو على كل قانون، وتم القضاء على مبدأ وحدة الميزانية الذى يشكل أهم دعامات الدولة الحديثة، ليشتغل كل وزير بجزء من إيرادات وزارته، يتصرف فيه كما يحلو له، ويشارك فى نهبه، لتعود مصر إلى حقبة الدولة المملوكية بعد أكثر من قرنين على قيام محمد على بتأسيس الدولة الحديثة فى مصر.
كما اختفت كل القواعد الأساسية التى تحكم إدارة الدولة الحديثة وعلى رأسها قاعدة ألا قرار ولا تصرف فى ظل تضارب المصالح، حيث لا يجوز لأى مدير مؤسسة عامة «أو خاصة» أن يكون طرفا هو أو أفراد أسرته، بشكل مباشر أو غير مباشر فى أن تعامل مع المؤسسة التى يقودها، والقاعدة الدستورية التى تمنع الوزراء فى مصر من تملك أى مال منقول وعقارى للدولة طوال مدة عمله.
وهكذا رأينا وزير الإسكان يخصص أراضى الدولة بملايين الأمتار المربعة بشركات يملك هو وعائلته ووزير آخر معظم أسهمها، ويخصص ملايين الأمتار الأخرى (16 مليون متر مربع) لصهر الرئيس مبارك.
وكان قطاع الثقافة من أكثر القطاعات التى ضرب العفن فيها، حيث تولت وزارة الثقافة العبث بكل شىء، فاحتلفت وزارة الثقافة ومعها كل رجال الوزير من المثقفين المشبوهين بذكرى احتلال بونابرت لمصر وأسمى المثقفون ذلك عيدا للتنوير، فى مسابقة نادرة وفاجرة لحكومة تهين أمة بأسرها.. تاريخها. ونضالها ضد الاحتلال، وترفع من شأن المستعمر على حساب الشهداء الذين سقطوا دفاعا عن وطنهم ضده.. وكل ذلك تحت إشراف مثقفين مصريين.
كما تم العبث بجوائز الدولة التقديرية، التى كانت تمنح فقط وفقا لإهداء السيد الوزير فاروق حسنى، حيث منحت لرئيس وزراء لم يكتب فى حياته كتابا واحدا، ولرئيس مجلس الشعب صاحب المؤلفات التافهة المنقولة عن الكتب المدرسية الفرنسية، حيث كان المعيار الوحيد فى منح هذه الجوائز هو الولاء للنظام، حتى أن مفكرا كبيرا بحجم جلال أمين وروائيا بحجم علاء الأسوانى لم يحصلا على جائزة الدولة التقديرية وحصل عليها كتاب لا وزن لهم بأى معيار علمى.
أما النظام التعليمى قد أصابه انهيار طائل، حيث اخترق التنظيم العصابى الجامعة ــ جامعة مصطفى مشرفة، وعبدالرازق السنهورى وأحمد مستجير ليحولها إلى ملحق لمباحث أمن الدولة، لا مكان للبحث العلمى الجاد أو بناء المستقبل، لا يعنى فيه عميد ولا رئيس للجامعة إلا بموافقة ومباركة مباحث أمن الدولة، فانهارت الجامعة انهيارا تردد صداه على المستوى العالمى فخرجت جامعات مصر كلها من قائمة الخمسمائة جامعة الأولى فى العالم وأصبحت فى نهاية الأمر كتاتيب لتحفيظ التلاميذ كبناء مدرسة هزيلة ومنحطة.. منقولة بالكامل لا عن المؤلفات الأجنبية وأغانى مؤلفات الرعيل الأول من أساتذة الجامعة العظام.
ولم يكن التعليم العام بأفضل حالا..
وكان من الطبيعى أن مسئولى هذا التنظيم العصابى على أجهزة الدولة الأيديولوية وعلى رأسها أجهزة الإعلام المرئى والمسموع والمقروء، وتحولها إلى أبواق سديدة الانحطاط تبرر النهب وتشارك فيه وتنظر للجهل، فتولى أمرها إعلاميون لا يكادون يعرفون القراءة والكتابة، ولا يعرفون معنى الحياة، حيث رأينا أخيرا كيف وجهوا للثورة ابشع وأحط الإهانات واتهموها بالعمالة لإيران وأمريكا وإسرائيل وحزب الله معها ــ انظر إلى العبقرية ــ وفجأة وبعد سقوط النظام وقادة التنظيم العصابى، إذا بهم دون خجل يتحولون إلى ثوار مؤيدين الثورة ويهيلون التراب على النظام الذى عاشوا فى كنفه سنين طويلة يبررون صراخه.
كما شاركت هذه الأجهزة الإعلامية فى نهب مصر، حيث تحول القائمون على إدارة الصحف القومية إلى النهب الفاجر لمؤسساتهم بتقرير نصيب لهم فى عائد الإعلانات المشاركة مع مديرى الإعلانات فبهذه الصحف وكونوا معا ثروات بالميارات، كما تحولوا إلى مستوردين للورق والأحبار التى تستخدمها صحفهم وكونوا معا شركات لهذا الغرض، كما ساهموا فى النهب عن طريق السمسرة فى عقدو إنشاء المقرات الجديدة الفاخرة لصحف الشعب.
باختصار لم نكن هناك فى مصر طوال الثلاثين عاما الماضية دولة وإنما عصابة.. عصابة اسقطها الشعب والجيش.. وأصبح علينا أن نعيد بالكامل بناء دولة المستقبل على أسس جديدة وهذا ما سنتناوله فى مقالنا القادم.