فلتنتبه السلطات
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
الأحد 15 فبراير 2015 - 11:50 ص
بتوقيت القاهرة
عدد كبير من كتاب المقالات والأعمدة فى الصحف المصرية تناول بالتعليق والانزعاج مذبحة مشجعى كرة القدم عند دخولهم إلى الاستاد الذى كانت تلعب فيه مباراة فريقهم المفضل. هؤلاء الكتاب لم يعرف عنهم اهتمام بكرة القدم أو على الأقل هم لم يخصصوا لها مقالاتهم وأعمدتهم من قبل. المراقب لا بدّ أن يتساءل لماذا هم فعلوا هذه المرة. والفرضية قوية فى أن الرد على التساؤل هو أنهم شعروا بأن الحادثة، من جانب، وخصوصا ردود الأفعال الرسمية عليها، نذير بخطر قادم كبير إن لم يحدث تصحيح سريع لمنهج التفكير الذى تصدر عنه ردود الأفعال هذه.
مقتل عشرين شخصا ذهبوا لمشاهدة مباراة فى كرة القدم فجيعة أيا كان سلوكهم. لو افترضنا صحة ما يقال عن عدوانيتهم، فإنها ليست مبررا مقبولا لمقتلهم. الدولة موجودة لتحمى حياة الناس، حتى وإن أرادوا إيذاء أنفسهم. لا تفعل الدولة عندنا ذلك، ولكن المفترض فيها هو أن تضبط السرعات وتنظم المرور حتى لا يقتل السائقون غيرهم وأنفسهم بتهورهم، وهى تقوم بهذه الوظيفة بالفعل فى أغلب البلدان. والدولة أو ممثلوها يمنعون من يريد أن ينتحر من أن يقتل نفسه. مقتل المشجعين العشرين هو فشل للدولة فى القيام بوظيفة أساسية من وظائفها.
● ● ●
القيام بوظيفة حماية الأرواح، أول وسائله هو النظام. قد يكون مفهوما، وإن لم يكن مقبولا، انعدام النظام إن اضطلع المجتمع بتنظيم شئونه، ولكن كيف يمكن قبول الفوضى فى حضور كثيف لممثلى الدولة؟ تراوحت الأقوال فى الأسباب المباشرة لمقتل المشجعين ما بين استخدام الرصاص الحى والخرطوش إلى إطلاق الغاز المسيل للدموع على المشجعين وتدافعهم فى أثناء دخولهم إلى الاستاد. الدولة تعتقد أنها تبرئ نفسها برواية التدافع. هذا وهم. رواية التدافع تعنى أن المشجعين لم يكونوا بصدد ممارسة العنف تجاه ممثلى الدولة بل إنهم كانوا مشغولين بدخول الاستاد لمشاهدة المباراة. ألا يستطيع ممثلو الدولة مجرد تنظيم هذا الدخول؟ الواضح هو أنهم لا يستطيعون الاضطلاع بهذه الوظيفة البسيطة، والواقع هو أن الشواهد عديدة على فشل الدولة وكذلك، وللأسف المجتمع، فى تنظيم حياة الناس وأنشطتهم. تجد ذلك فى المرور، وفى البناء، وفى النظافة، وفى النقل الجماعى للأفراد، وفى تحديد موعد الانتخابات البرلمانية، وفى تقديم المرشحين لأوراق ترشحهم، وفى حرق قش الأرز، وفى تحديد الإجازات الرسمية، بل وفى مجرد تنظيم مسابقة الدورى العام فى كرة القدم، وأخيرا فى عزف السلام الوطنى الروسى، وفى استقبال الصحفيين فى مقر الدولة، وغير ذلك كثير.
غير أن الأمر فى مقتل المشجعين عند دخولهم الاستاد لا يتوقف عند حد التنظيم. شبهة إلقاء الغاز المسيل للدموع بكثافة على المحشورين فى باب الدخول تنفيها الدولة ويؤكدها من نجا من المشجعين وذكرها واحد من الأطباء الشرعيين قبل أن ينكرها الطب الشرعى كهيئة رسمية. للدولة سوابق فى استخدام الغاز المسيل للدموع بشكل قاتل، استخدام لم يلق المسئول عنه أى جزاء. لذلك فإن للشبهة مصداقية. المعنى فى ذلك هو أن الدولة بدلا من أن تنظم الناس أوحتى من أن تحميهم من أنفسهم، مارست العنف ضدهم. هل هذا شىء مقبول؟ ألا يمكن أن يقابل هؤلاء الناس العنف بالعنف، ألا يمكن أن يمارسوه ضد الدولة؟ ألا يجدر بالدولة أن تحاصر عنف الإرهاب الذى تتكرر عدوانيته وتتعاظم، بدلا من أن توسع من دائرة العنف الذى يمارس ضدها؟
● ● ●
زهقت أرواح أكثر من ثلاثين مواطنا عندما ألقيت عليهم قنبلة مسيلة للدموع فى أوتوبيس مغلق. ولقى أكثر من سبعين مواطنا من مشجعى كرة القدم حتفهم عند خروجهم من استاد بورسعيد، وقتلت متظاهرة سلمية، وغير هذه الأمثلة كثير، وفى كل مرة أضاعت الدولة المسئولية ما بين الضحايا أنفسهم وأطراف ثالثة، إخوان مسلمين أو جهات مجهلّة غير مسماة. أليس من مسئولية الدولة الكشف عن مرتكبى هذه الجرائم بشكل محدد وتوقيفهم؟ إلى متى يقبل الناس ألا تضطلع الدولة بوظائفها؟
العلاقة التى أقامها مسئول كبير بين مقتل مشجعى كرة القدم وعملية التنمية صحيحة. ولكنها ليست صحيحة لأن مقتلهم كان مؤامرة تستهدف التنمية بل لأنه وببساطة لا يمكن أن تستقر عجلة النشاط الاقتصادى وأن يتسارع إيقاعها، كما أنه ليس متصورا أن تقبل رءوس الأموال الأجنبية، بل والمصرية، على السوق المصرية فى أجواء فوضى وعنف متكررين.
حجة المؤامرة هى تنصل من المسئولية بل من مجرد البحث فى أسباب الفوضى والعنف والمصرع الرخيص للناس، مصرعهم بدون أن يكونوا معرضين لأى خطر قاتل حقيقى. عدم البحث هذا يعنى انتفاء العلاج، وهو ما يترتب عليه انتشار المرض فى كل أعضاء الجسم الاجتماعى.
الفوضى والتعامى عن الأسباب والإمساك عن العلاج عوامل تزيد من طمع الطامعين من الإرهابيين وغيرهم من ممارسى العنف السياسى بل والجنائى كذلك. المؤسف أن ذلك هو موقف الدولة مما يهددها فعلا بينما هى تستأسد على الشباب الذى يندد بنقائصها ويريد إصلاحها. بدلا من أن تصغى الدولة للأصوات التى تنبه إلى المشكلات الكامنة فى الطريق التى تسير فيها، وعوضا عن أن تفتح القنوات لكى تتعدد هذه الأصوات حتى تستفيد هى بها، فإنها لا تألو جهدا فى تضييق المساحات التى يمكن أن تنطلق فيها هذه الأصوات وأن تستمع هى أو غيرها إليها.
● ● ●
بانتشار المرض فى الجسم الاجتماعى ستزداد فرص وقوع الحوادث التى تهدر فيها أرواح الناس وسترتفع وتيرتها. فى ذلك تبديد للشرعية وإضعاف لها فى وقت هى تحتاج فيه إلى القوة المشروعة لمحاربة الإرهاب والعنف. هذا التبديد وهذا الإضعاف يقوضان من أسس النظام السياسى ومن بعده الدولة. أغلب الظن أن هذا ما دعا كتابا عديدين إلى التعليق على مقتل المشجعين العشرين.
فلتتنبه السلطات، فالخطر كبير.