نهج «التشبه بالخصخصة» وتأثيره على قطاع مياه الشرب فى مصر
العالم يفكر
آخر تحديث:
السبت 15 فبراير 2020 - 8:20 م
بتوقيت القاهرة
أجرت الباحثة «دينا خليل» ــ باحثة ومدرس بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة ــ بالتعاون مع مؤسسة ميلون وكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة دراسة حول أسباب ارتفاع أسعار المياه فى مصر والذى أرجعته الباحثة إلى ما يمكن وصفه بالتشبه بالقطاع الخاص أو التشبه بالخصخصة، وما له من تأثيرات إيجابية وسلبية.. نعرض منه ما يلى.
عند مناقشة سياسات التحرر الليبرالى فى قطاعات المرافق العامة فى مصر، تتم الإشارة فى أغلب الأحيان إلى أوائل العقد الأول من القرن الحادى والعشرين عندما تم تحويل هيئة كهرباء مصر إلى شركة مساهمة «الشركة القابضة لكهرباء مصر» بموجب القانون رقم 164/2000 وإنشاء الشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحى بموجب القرار الجمهورى رقم 135/2004. عند تحويل هيئات المرافق إلى شركات، أصبحت مكلفة بتغطية تكاليفها وتحقيق ربح. وهكذا، فى أعقاب هذه الإصلاحات، أصبحت كلتا الشركتين مضطرتين لرفع تعريفة الخدمة المقدمة وإيلاء المزيد من الاهتمام لتحصيل الفواتير. فى ضوء هذه التغيرات، ادعى البعض أن قطاع المياه فى مصر قد تمت خصخصته، ولكن الحقيقة هى أن ما حدث هو شيء أكثر تعقيدا. هو بالتأكيد ليس خصخصة بالمعنى المباشر، خاصةً أن دور القطاع الخاص فى قطاع مياه الشرب والصرف مازال محدودا للغاية. ما حدث، ومازال يحدث، هو ما يمكننا وصفه بالتشبه بالقطاع الخاص أو التشبه بالخصخصة.
«التشبه بالخصخصة» وسياسات التكيّف الهيكلى
بدلا من الخصخصة المباشرة، تمت إعادة هيكلة الهيئة العامة لمياه الشرب ــ كغيرها من هيئات المرافق العامة ــ لتصبح شركة من شركات قطاع الأعمال العام الخاضعة للقانون 203 لسنة 1991. صدر ذاك القانون بهدف «تحرير القطاع العام» ــ وفقًا لمذكرته الإيضاحية ــ وذلك تزامنًا مع بدء تطبيق برنامج سياسات التكيّف الهيكلى فى مصر المدفوعة من البنك الدولى وصندوق النقد الدولى عقب الأزمة الاقتصادية التى واجهتها البلاد أواخر الثمانينيات وفى إطار التوجه العالمى إلى النيوليبرالية. بالتفتيش عن المنطق المؤسس لهذا التغيير، نجد أن الكلمات المفتاحية فى المذكرة الشارحة للقانون هى «تقليص دور الأجهزة الحكومية» و«الفصل بين الملكية والإدارة» بحيث تصبح الدولة ككيان اعتبارى هى المالك للقطاع العام والمراقب عليه دون التدخل فى إدارته ورسم سياساته والتى آلت بموجب القانون إلى شركات مملوكة بالكامل للدولة، ولكنها شركات مساهمة تماثل فى نوعيتها وشكلها القطاع الخاص وتتمتع بالصلاحيات والحريات الكاملة والمستقلة فى إدارة استثماراتها الخاصة، فى إطار علاقة وصفها القانون بالعلاقة التعاقدية بين صاحب رأس المال ومديره.
وفقا لهذا النهج وبالتدريج انضمت المرافق والخدمات الأساسية إلى ركب هذا التحول وتم استبدال هيئات المرافق العامة بشركات قابضة مفوضة برسم سياسات المرفق العام وإدارته وتنفيذ مشروعاته، وتعتمد على تدوير الاستثمارات وتعظيمها وتعبئة الموارد المالية دون الاعتماد على استثمارات جديدة من الدولة.
ورغم الأهمية القصوى لدراسة هذا التحول القانونى والمؤسسى وما نتج عنه من إعادة هيكلة لهذا القطاع الاقتصادى الضخم، لا يجب إغفال قراءته وفهمه كنقطة تحول وتأسيس للمنطق الحاكم لتقديم الدولة للخدمات والمرافق الأساسية خلال العقود الثلاثة الأخيرة وحتى يومنا هذا. فعوضًا عن رؤية الخدمات والمرافق الأساسية حقوقًا للمواطنين تقدمها الدولة بمقابل رمزى وتغطى تكلفتها موارد الدولة الضريبية وغير الضريبية، أصبحت الخدمات والمرافق قطاعا اقتصاديا استثماريا وأصبح المواطنون زبائن فى إطار علاقة جديدة تحكمها قواعد السوق الحرة وحسابات الربحية وتفاعل قوى العرض والطلب. جزء من القرار بالطبع، كما أوضح المشرعون وواضعو السياسات المصريون والهيئات الدولية التى دعمت إعادة الهيكلة، كان مدفوعًا بتحسين الكفاءة والاستدامة وتقديم خدمة العملاء بمستوى أكثر احترافًا، والقدرة على تمويل المعدات والبنية الأساسية اللازمة للمشروعات وتخطى عقود من الفشل البيروقراطى فى توفير هذه المعايير. ورغم وجود بعض الحقيقة فى هذا الخطاب، إلا أنه فى الأساس جزء من تحول أكبر فى سياسة الدولة العامة ورؤيتها لدورها ولعلاقتها بالمواطنين. وبالنسبة للشركات كان لزامًا عليها لتحقيق هذه الأهداف تبنى سياسة تسعير مختلفة، وهيكل تعريفة مختلف، وإيلاء أولوية أكبر لتحصيل الفواتير، وبالتالى الوصول للاكتفاء الذاتى ماليا وتحقيق ربح فى نهاية المطاف.
إذن كيف أثر هذا على الوصول لمياه الشرب فى ربوع مصر بشكل عام وفى المناطق غير الرسمية بشكل خاص؟
نتج عن هذه التغييرات آثار إيجابية وآثار سلبية. على الجانب الإيجابى، كان هناك تحسن ملحوظ فى الوصول لمياه الشرب على المستوى القومى، وأصبح بإمكان نسبة أكبر من المواطنين فى معظم أنحاء البلاد الحصول على المياه من خلال الشبكة العامة. أما على الجانب السلبى، كانت هناك زيادة فى التعريفات. وأصبح المواطن يدفع نسبة أعلى من دخله مقابل استهلاك المياه.
بالتركيز على المناطق غير الرسمية، حيث العلاقة بين الدولة والعمران بشكل عام أكثر تعقيدًا، نجد أن إدارة ملف المرافق العامة ومرفق المياه تحديدًا قد شهدت تغيرات عدة عبر العقود الماضية ولعبت دورًا فى غاية الأهمية فى ترسيم وإعادة ترسيم شروط هذه العلاقة بين الدولة والقانون والمواطن فى هذه المناطق الحضرية.
تأوى المناطق غير الرسمية النسبة الأكبر من المواطنين فى المدن المصرية، وتتنوع فى ظروف نشأتها وحالة الخدمات والمنشآت بها، ولكنها تشترك فى كونها نشأت دون تدخل مباشر أو تخطيط مسبق من الدولة. رغم إشكالية تعريف هذه المناطق، تلقب المناطق غير الرسمية فى الخطاب الرسمى بالمناطق العشوائية، وتنزع مؤسسات الدولة لإنكار مشروعية السكن بها بدعوى كونها غير قانونية ولا تتبع رؤية الدولة للتنمية العمرانية. المفارقة المثيرة فى هذا الشأن تتمثل فى شغل هذه المناطق النسبة الأكبر من المناطق الحضرية المصرية ــ وخاصة تلك التى تخضع لتصنيف المناطق غير المخططة، والتى لا تكن مشكلتها عادةً ملكية الأراضى ولكن عدم خضوعها للتخطيط الحكومى وإجراءات الترخيص بالبناء ــ حيث قد قدرت هيئات حكومية تابعة لوزارة الإسكان نسبة انتشارها بمعدل 75% من العمران الحضرى بمصر. لم تنشر هذه النسبة لأسباب سياسية ولكن يتم تداولها بأريحية من قبل حكوميين فى اللقاءات والمؤتمرات المهتمة بمناقشة قضايا التطوير الحضرى.
لم تكن المنازل فى هذه المناطق فى المراحل المبكرة مرتبطة بالشبكة العامة، بل ولم تكن مواسير المياه العمومية تمر بهذه المناطق من الأساس. لذلك كان الوصول إلى المياه يعتمد على وسائل بديلة مثل بائعى المياه غير الرسميين. فى بعض الحالات، كانت تمر المواسير العمومية على مقربة من المنطقة، ومع الوقت تمكن البعض من تركيب وصلات غير رسمية لتوصيل المياه عبر هذه المواسير لمنازلهم. وبمرور الوقت، أصبحت هذه الآليات البديلة أكثر تطورا وأصبحت العديد من المناطق غير الرسمية تعتمد على شبكات مياه متطورة تصل المنازل بالشبكة العمومية، ولكن دون أى تدخل من شركة المياه، وبالتالى دون تحصيل فواتير.
إذن ما الذى يعنيه هذا فى نظر شركة المياه التى كانت مطالبة للتركيز على استرداد التكاليف؟ هذا ما سيتم مناقشته فى الجزء الثانى من هذه المقالة.