ما بعد الإسكندرية وأطفيح: كيف نحدث اختراقـًا فى مسألة الوحدة الوطنية؟
زياد بهاء الدين
آخر تحديث:
الثلاثاء 15 مارس 2011 - 9:25 ص
بتوقيت القاهرة
حينما وقعت جريمة كنيسة القديسين فى الإسكندرية فى مطلع العام، سادت فى البداية بين المصريين روح حقيقية للتضامن والمودة والوئام على نحو كان مفتقدا منذ وقت طويل. ولكن مع مرور الأيام سرعان ما زالت السكرة وبقيت الفكرة، فتراجع الحماس الإعلامى وظل الواقع كما هو دون تغيير يذكر ودون برنامج واضح يلتف عليه المجتمع للتعامل مع أصول المشكلة لا نتائجها. وبينما كان من الممكن استغلال لحظة الألم والغضب والحماس للوحدة الوطنية من أجل شحذ الهمم وتحقيق تقدم حقيقى، فإن الفرصة فاتت وتحولت جريمة الإسكندرية إلى محطة أخرى يبطئ القطار سرعته فيها ولكنه لا يتوقف ولا يغير مساره.
واليوم نجد أنفسنا فى أعقاب أزمة طائفية أخرى فى اطفيح والمقطم والسيدة عائشة مختلفة نوعيا وكان يمكن أن تزداد خطورة واتساعا وأثرا من جريمة الإسكندرية لولا تضافر كل الأطراف من القوات المسلحة والحكومة والقوى السياسية بما فيها التيار الإسلامى وجماهير المسلمين والأقباط لوضع حد للفتنة وتداعياتها. الوضع إذن فى اطفيح كان مختلفا، والتحقيقات قد تثبت وجود مؤامرة متعمدة لإثارة الفتنة، كما أن هناك تصميما هذه المرة على كشف الحقيقة ومحاسبة المسئولين عنها. ولكن مع ذلك فلا يجب أن نسمح بأن تتحول اطفيح إلى محطة أخرى نكتفى فيها بالتعبير عن تمسكنا بالوحدة الوطنية وبتبادل الرسائل والتعازى، وإنما ننتهز الفرصة للتأمل فى أصل التوتر وأن نبحث عما يمكن أن يحدث اختراقا حقيقيا فى قضية الوحدة الوطنية، وأن نعيد النظر فى الأسلوب المعتاد لتناوله إعلاميا وسياسيا.
ولنتفق أولا على أن الواقع فى مصر لا يرقى إلى حد الاضطهاد المنظم ضد الأقباط، ولكنه وعى مستتر وتفرقة غير معلنة وتباعد متزايد بالمعنى الاجتماعى والثقافى، لا يقطعه فى كثير من الأحيان سوى تقديم واجب العزاء لزملاء العمل، وحضور أفراح أبنائهم، ومناسبات أخرى قليلة. ظروف الحياة تفرض الاختلاط، ولكن كلما سنحت الفرصة كان اختيار المستشفى والطبيب والمدرسة وأصدقاء الأطفال والجيرة فى السكن معبرين عن تفضيل وارتياح فى التعامل مع ذات الملة. وهذا هو ما يبعث على القلق وينبغى التوقف عنده، أن تنشأ هوة ثقافية بين عنصرى الأمة، تتسع مع الوقت، وتبدو تدريجيا كما لو كانت أمرا طبيعيا، بينما هى موطن الخطورة.
لذلك ينبغى التوقف عند رد الفعل الإعلامى والسياسى أيام جريمة الإسكندرية والذى أراه يتكرر الآن، إذ يأتى محملا بمشاعر نبيلة من التضامن بين المسلمين والأقباط فى لحظة الأزمة، ولكنه يكون أيضا مليئا بالصخب والضجيج الذى لا يقدم جديدا، ولا يحدث فارقا، بل وربما يعمل عمل المسكن الذى يمنع من اتخاذ إجراءات أكثر فاعلية. ويرتبط بذلك أن ذات الخطاب الإعلامى يأتى أيضا ليعرقل كل محاولة للتقدم لأنه يحمل فى طياته فكرة أن الأحداث الطائفية فى نهاية الأمر أعمال شاذة واستثنائية، لو تجاوزناها فسوف نعود إلى وضع سليم ومثالى كان سائدا من قبل، لا تشوبه شائبة وتؤكده الصداقة الحتمية بين حسن ومرقص. فهذا النموذج الفكرى كان يرمى إلى تجنب فكرة التغيير وإلى بقاء الأوضاع على ما كانت عليه قبل وقوع هذه الجرائم والأحداث. وأتصور أن هذا التناول كان يثير قلقا لدى الأقباط أكثر من المسلمين، وتجعلهم برغم ترحيبهم بمشاعر المحبة والتضامن التى يعبر عنها ملايين المسلمين يخشون مع ذلك أن ينتهى ذلك بالعودة إلى الأوضاع السابقة دون تغيير يذكر، ودون التعرض بشكل أكثر عمقا لمطالبهم وآمالهم.
هذه المرة لسنا مضطرين لقبول ذات التناول السطحى. فأجواء ثورة يناير وما جلبته من مكاشفة وصراحة وقبول لأفكار جديدة تمنحنا فرصة تاريخية لكى نتجاوز الكثير من سوء التفاهم الذى عرفه المجتمع وسكتنا عليه بلا سبب. الأمور العالقة ليست صعبة ولا خطيرة. فمصر بالفعل ليست مكانا للاضطهاد، ولا هى مجتمع طائفى بطبعه، والحديث عن التسامح المصرى حقيقى لا مفتعل. ولكن يلزم حسم القضايا التى تركت لسنين دون اهتمام كاف. وكما أن الثورة قد نجحت لأنها جمعت الناس حول قضية واحدة واضحة وقاطعة هى الديمقراطية وتغيير النظام ولم تتراجع عنها خطوة واحدة، فكذلك يمكن لهذه الثورة وللقائمين عليها والمتحدثين باسمها أن يطرحوا فكرة المساواة التامة والمواطنة الكاملة فى إطار القانون بذات الوضوح والقطعية ودون قبول لخطاب التوازنات والمخاوف التى تعرقل تقدم المجتمع، وأن تضع ثقلها المعنوى وقدرتها على حشد الجماهير وراء تحقيق ذلك خاصة فى لحظة اجتماع الناس حول الرغبة الصادقة فى وضع أسس جديدة للمجتمع. عملا لا يهم إذا كان المطلوب هو تعديل قانون دور العبادة أو مراجعة مناهج التعليم أو إصدار تشريع جديد يمنع التفرقة وتطبيقه بحزم أو غير ذلك من الإجراءات والقوانين، فهذه أمور يلزم مناقشتها على نحو مفتوح وصريح ودون خوف من العواقب.
الأهم أن يتم استغلال هذه اللحظة التاريخية للتصدى للفجوة بين عنصرى الأمة التى صنعتها عقود من التجاهل والخوف من اختلال الموازين لكى تقف كل التيارات السياسية والثقافية والجماهيرية التى التحمت فى ميدان التحرير والتحمت أيضا فى قرية صول لكى تتحد مرة أخرى فى الدفاع عن وحدة الوطن، وأن يحرص كل من كان مطالبا بالحرية والعدالة السياسية على أن يأخذ ذات الموقف بالنسبة لمطالب الأقباط المشروعة. فالعدالة والحرية مفاهيم لا يمكن تجزئتها بل يجب المضى وراء نتائجها المنطقية والأخلاقية حتى النهاية.