ساسة من خارج الدولة

إبراهيم الهضيبى
إبراهيم الهضيبى

آخر تحديث: الجمعة 15 مارس 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

التعقد المستمر للمشهد السياسى ــ وإن كان فى أحد أبعاده يتعلق بتوجهات وكفاءة الأطراف الموجودة فى الحكم والمعارضة ــ فإنه يعبر أيضا عن صراع بين مشروعين للحكم؛ أحدهما للدولة التسلطية القائمة من قبل الثورة، والثانى للمجتمع الراغب فى أساليب أكثر ديمقراطية (بالمعنى السياسى والاجتماعى) فى الحكم، وهو ما لا يمكن تحقيقه بغير تحصيل أسبابه.

 

•••

 

تكشف الأحداث عن فشل الأطراف السياسية الرئيسة فى تقديم حلول تحظى بأى قدر من الشرعية للمشكلات الحالة؛ الأمنية والاقتصادية والعدلية؛ فأما الحكومة فقد «فوجئت» بمقاومة أجهزة الدولة لمشروعها، فتذرعت بذلك لتبرير اتساع البون بين الواقع وما وعد به الرئيس، رغم أن التفاجؤ غير مبرر، لأن سببه ليس كوارث طبيعية وإنما شد وجذب متوقع بين السلطة السياسية والجهاز البيروقراطى، وأما المعارضة فقصر جلها مشروعه السياسى على نقد الحكام، من غير تقديم بدائل تتعلق بالسياسات أو كيفيات صناعة القرار أو نظم الحكم تقدم بها رؤية بديلة للتعامل مع التحديات التى تواجه مصر.

 

بيد أن قصر الأمر على الحكام والمعارضة مخل، لأنه يستبعد اللاعب الرئيس، وهو «الدولة» بمؤسساتها البيروقراطية والعسكرية، والتى أنشأها محمد على قبل أكثر من قرنين من الزمان لتدعيم أركان حكمه، ونشأ فى أروقتها «الوعى بالمصرية»، فكانت سابقة فى وجودها على الجماعة الوطنية، مؤسسة لها، قائدة ــ بالنيابة عن الجماهير، بقطع النظر عن إرادتهم ــ لعملية التحديث على المستوى الاقتصادى والاجتماعى والدينى.

 

تلك الدولة ــ كما هو الحال فى الكثير من دول العالم الثالث ــ كانت تحمل فى أجهزتها مشروعا سياسيا، فكان من الطبيعى أن تفرز نخبا تعبر عن ذلك المشروع بأجنحته المختلفة، فاحتل أبناؤها مقاعد الصدارة فى الحكومات والمعارضة جميعا، بدءا من حكام دولة محمد على، ومرورا بأحمد عرابى وسعد زغلول ووصولا لجمال عبدالناصر وخلفيه فى الحكم، وبشكل عام، كان مشروع «الدولة» هو الذى حكم مصر خلال القرنين الأخيرين على الأٌقل، وظل لاعبا رئيسا بعد الثورة.

 

•••

 

وفى مقابل الدولة كان المجتمع، وكانت مؤسساته الرئيسة، كالنقابات والطرق الصوفية ونظام العمد والمؤسسة الوقفية وغيرها من المؤسسات المتداخلة الهادفة لتحقيق غايات الجماعة فى شئونها المتعددة والمتنوعة، قد تراجع دورها مع نشأة الدولة الحديثة، لتحل الدولة المركزية الحديثة محلها، وانتهى تدريجيا وجودها الذاتى المعتمد على فكر وأعراف وصلات اجتماعية، وتمت «دولنتها» بحيث صارت أجزاء من جهاز الحكم لا انعكاسا للإرادة المجتمعية.

 

وهكذا، فإن هذا المجتمع ــ لما تراجع مشروع الدولة التسلطية جزئيا بفعل الثورة ــ لم يستطع التقدم للأمام واحتلال بعض المواقع، إذ لم تكن المنصات التى يمكن الارتكاز عليها قائمة، ولذلك فقد ترك تراجع الدولة فراغا، تعود الآن جزئيا لملئه (كما يبدو فى الحديث عن «عودة» الجيش للمشهد السياسى، و«التصالح» مع رموز نظام مبارك، وغير ذلك)، لا يمنعها من العودة الكاملة إلا أن عصاها انكسرت، والخوف منها تبدد، والغضب تجاهها يستند لمظالم حقيقية، تتصل بالدماء والأقوات، الأمر الذى يجعل الفتور فى المطالبة بها مستبعدا.

 

فالأزمة الحالية فى أحد أبعادها هى صراع بين دولة تسلطية لم تعد تمتلك أدوات وشرعية القمع التى اعتمد عليها حكمها من جهة، ومجتمع يريد التعبير عن نفسه وتغيير العلاقة بينه وبين الدولة من غير أن يمتلك أدوات ذلك من جهة أخرى، والمخرج من تلك الأزمة سيكون إما ردة للخلف بتمكين الدولة، أو حركة للأمام بتمكين المجتمع.

 

•••

 

وتمكين المجتمع يحتاج لإعادة إيجاد المؤسسات المجتمعية التى تعبر عنه، وتضع مصيره فى يده لا فى يد الدولة، وتمكنه من نظامه السياسى ليكون خادما له لا العكس، وإيجاد القيادات الطبيعية التى تتفق أولوياتها ومواقفها مع المجتمع، وتمتلك فى الوقت ذاته الكفاءة التى تمكنها من إدارة الدولة، وهو ما يمكن أن يتحقق بشكل رئيس من خلال مؤسستين: أولاهما المحليات، وثانيهما النقابات.

 

ففى هاتين المؤسستين يكون الانشغال ــ وجوبا واضطرارا ــ بقضايا الناس، سواء المهنية أو الخدمية، على نحو يفرض تجاوز الاستقطاب المعيق للحركة والفكر، وتكون فرص النجاح فى الانتخابات لغير المنتمين للتنظيمات الكبرى، وغير ذوى القدرات المالية العالية، أفضل منها فى الانتخابات التشريعية، ويحتفظ الفائز بالانتماء العضوى لجماعته (سواء الوظيفية أو الجغرافية) مع تداخله فى عمليات الإدارة فى الدولة، على نحو يكسبه خبرات تعينه على الترقى فى المراتب السياسية بمشروع المجتمع لا مشروع الدولة.

 

إن مثل هذه الأوعية المجتمعية هى المفرزة الطبيعية للقيادة السياسية الفاعلة، والقادرة على تمكين المجتمع، ويبدو ذلك واضحا ــ على سبيل المثال ــ فى النرويج، حيث يأتى أكثر من 60% من البرلمانيين من المحليات، إضافة لذوى الخلفيات النقابية، فيعبرون عن انحيازاتهم تلك بالدفع فى اتجاه المزيد من تمكين المجتمع، وفى البرازيل استفاد الرئيس السابق لولا دى سيلفا من تجربة طويلة فى العمل النضالى فى النقابات والاتحادات العمالية، مكنته من علاج مشكلات اقتصادية تتعلق بفجوات الدخل ومستوياته فى سنين معدودة، وفى تركيا كانت للخبرات التى أكتسبها رئيس الوزراء أردوجان كعمدة لإسطنبول أهمية مركزية فى تمكينه فى فهم البيروقراطية ومن ثم نجاحه فى حلحلة النظام الأتاتوركى، وفى إيران لا يزال أحمدى نجاد يستند على قاعدة تأييد من «البسطاء» بعد خبرة مماثلة اكتسبها فى المحليات.

 

•••

 

إن مشروع تمكين المجتمع، الذى هو جوهر الديمقراطية، وجوهر مطالب الثورة، لا يمكن أن يتحرك للأمام بمجرد دفع مشروع الدولة للخلف، إذ هذه ستعود حتما، طال الزمان أو قصر، كليا أو جزئيا، ما احتل الفراغ مكانها، وإنما يحتاج مشروع تمكين المجتمع لمنصات يتحرك منها للأمام، من أهمها المحليات والنقابات، التى تحتاج لإصلاحات تشريعية وسياسية لا تحظى بالقدر الكافى من الاهتمام، وربما تستحق الإفراد فى مقال مستقل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved