دستور 1971 الدائـم الذى لم يدم
عماد أبو غازي
آخر تحديث:
الجمعة 15 مارس 2013 - 3:38 م
بتوقيت القاهرة
فى سبتمبر سنة 1971 وفى أجواء إعلامية تروج لدخول البلاد «عصر جديد»، تم الاستفتاء على دخول مصر فى اتحاد كونفيدرالى مع سوريا وليبيا تحت اسم «اتحاد الجمهوريات العربية»، وفى نفس الوقت جرى الاستفتاء على دستور جديد للبلاد تم وصفه بأنه الدستور الدائم، على أساس أن دستور 1964 كان دستورا مؤقتا يجرى العمل به لحين قيام مجلس الأمة بصياغة دستور دائم يتم استفتاء الشعب عليه، بل نستطيع أن نقول إنه كان فى أسلوب إصداره أقرب لإعلان دستورى مطول منه إلى دستور يقره الشعب.
لم يكن وصف الدستور بأنه الدستور الدائم الأمر الوحيد الذى ميز الدستور شكليا، لكنه أيضا تميز بأنه أكثر دساتير مصر مواد حتى صدور دستور 2013 الذى تفوق عليه فى عدد المواد؛ فقد تضمن الدستور قبل تعديلاته المتوالية 211 مادة، ولو نظرنا إلى دساتير مصر قبل هذا الدستور، سنجد أن دستور 1882 مكون من 53 مادة، ودستور 1923 من 170 مادة، ودستور 1930 من 156 مادة، ودستور 1956 من 195 مادة، ودستور 1958 من 73 مادة، ودستور 1964 من 169 مادة، وخلال التعديلات المتوالية للدستور على مدار 30 عاما تمت إضافة مواد جديدة للدستور تحت أرقام مكررة.
لكن ما قصة هذا الدستور وكيف تمت صياغته؟
بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر فى 28 سبتمبر 1970 وتولى نائبه محمد أنور السادات رئاسة الجمهورية بعد ترشيح مجلس الأمة لاسمه واستفتاء الشعب عليه وفقا لدستور 64 المؤقت، وعاشت مصر لعدة شهور فى ظل توازن بين الرئيس الجديد ومجموعة رجال الرئيس عبد الناصر الذين التفوا حول أحد نائبى الرئيس السيد على صبرى، وفى أواخر شهر أبريل من عام 71 بدء الصدام فى قمة السلطة عندما فاجأ رئيس الجمهورية القيادة السياسية بمشروع الاتحاد مع سوريا وليبيا، كان هذا السبب المباشر للصدام فى قمة السلطة فى اجتماع للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى العربى، وفى 4 مايو تمت إقالة على صبرى، وتصاعد الصراع بسرعة، وفى 13 مايو 1971، تقدم أمين الاتحاد الاشتراكى وبعض أعضاء لجنته التنفيذية العليا ورئيس مجلس الأمة ووزراء الحربية والداخلية والإعلام والمواصلات باستقالاتهم من مناصبهم فى محاولة لإحراج رئيس الجمهورية، لكنه بادر باعتقالهم مع عشرات من أنصارهم فى الاتحاد الاشتراكى ومجلس الأمة والجهاز الحكومى والمؤسسات الإعلامية، وتمكن خلال ساعات من السيطرة على الدولة بالكامل بمعاونة مجموعة جديدة فى السلطة، وفى صباح السبت 15 مايو 1971 خرجت مظاهرات التأييد للرئيس السادات، وبدأت الصحف تشن هجوما ضاريا على الساسة المستقيلين ووصفتهم بمراكز القوى.
أطلق الرئيس السادات وأنصاره على ما حدث اسم ثورة التصحيح، أو ثورة 15 مايو، بينما أطلق عليها خصومه اسم انقلاب مايو.
كان الرئيس السادات يبحث عن شرعية جديدة لنظامه، إلى جانب شرعية يوليو 52 التى لم يتخل عن استخدامها، فسعى لأن يؤسس إلى جانب الشرعية الثورية شرعية دستورية جديدة، وبدأ رجال السلطة الجدد يطرحون مفاهيم جديدة وشعارات مغايرة مثل: «سيادة القانون» و«دولة المؤسسات»، كما أعلن السادات عن العودة لاسم مصر والتخلص من مسمى الجمهورية العربية المتحدة فى محاولة واضحة لكسب تعاطف قطاع واسع من المجتمع، وبدء السادات بعد شهور يستعين بجماعة الإخوان المسلمين التى أفرج الرئيس عن قادتها من السجون وسمح لمن كان قد غادر البلاد منهم فى الخمسينيات والستينيات بالعودة وممارسة النشاط بحرية، ليواجه بهم بقايا التنظيم الطليعى للاتحاد الاشتراكى وتيارات اليسار الشيوعى والناصرى التى ظهرت على الساحة.
وهنا كان لابد من صياغة الدستور «الدائم» للبلاد، خاصة مع دخول الرئيس السادات فى مشروع اتحاد الجمهوريات العربية، فتشكلت لجنة لوضع مشروع الدستور، وحاولت اللجنة وضع مشروع يتضمن حماية الحريات واحترام حقوق الإنسان، لكن المشروع النهائى الذى تم الاستفتاء عليه أُدخلت عليه بعض التعديلات التى تضمن سلطات واسعة لرئيس الجمهورية، كذلك تعليق معظم الحريات على ما يسمح به القانون.
لقد جاء الدستور الجديد معبرا عن توازنات اللحظة التى تمت صياغته فيها، وعن توجه النظام لإعادة السيطرة على المجتمع بأسلوب جديد.
لقد عبر الباب الأول والذى يحمل عنوان «الدولة» عن هذه التوازنات، فأصبح اسم الدولة فى المادة الأولى «جمهورية مصر العربية»، من ناحية يداعب حالة الحنين إلى الماضى التى ظهرت بعد هزيمة 67 ومن ناحية أخرى لا يقطع الخيوط مع الاتجاه القومى العربى.
ومغازلة للتيار الإخوانى وتأكيدا لصورة «الرئيس المؤمن» يضيف إلى المادة الثانية التى تتحدث عن «الإسلام دين الدولة» نصا يقول: «ومبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسى للتشريع»، ثم يعود فى تعديل دستورى تم فى عام 80 ليضيف ألف لام التعريف للعبارة لتصبح: «المصدر الرئيسى».
وحافظ الدستور الجديد على فكرة «تحالف قوى الشعب العاملة» المستمدة من الميثاق الوطنى، لكن مع الانتقال للتعددية الحزبية المقيدة منصف السبعينيات تم تعديل بعض مواد الدستور بما يسمح بإنشاء الأحزاب. كما حافظ على نسبة الخمسين فى المئة للعمال والفلاحين.
ولأن شعار الدولة الجديدة كان «سيادة القانون» فقد حمل الباب الرابع عنوان سيادة القانون، ضم بعض المواد التى وردت فى دساتير سابقة لكنه أيضا أكد حظر تحصين أى عمل أو قرار إدارى من رقابة القضاء، وأفاض فى شرح حقوق من يقبض عليه أو يعتقل.
أما باب الحريات فرغم ما ضمه من حقوق وحريات شخصية وعامة وسياسية فإن معظمها تم تعليقه على القانون مثلما كان فى الدساتير السابقة، كما تم تخصيص فصل خاص للصحافة التى سميت بالسلطة الرابعة.
وحافظ الدستور على السلطات المطلقة لرئيس الجمهورية وأكد على النظام الرئاسى الاستبدادى، واستمر اختيار الرئيس من خلال استفتاء على اسم واحد يرشحه مجلس الشعب، إلى أن تم الانتقال لنظام الانتخاب بين أكثر من مرشح فى عام 2005، وكان الدستور قد نص عند صدوره على أن الحد الأقصى لرئيس الجمهورية دورتان فقط، لكن هذا النص تم تعديله عام 1980 ليجعل من حق الرئيس أن يتقدم لمدد أخرى دون تقييد.
وقد استحدث دستور 71 فى تعديلاته مجلسا للشورى لنعود مرة أخرى لنظام البرلمان المكون من غرفتين.
تبقى نقطة أخيرة، فإذا كان النظام بعد يوليو 52 كان قد اعتمد مجموعة من الوثائق السياسية التى توالى إصدارها، والتى كانت تفوق فى أهميتها الدساتير المتعاقبة للبلاد، بدءا من المبادئ الستة ففلسفة الثورة، ثم الميثاق الوطنى، وأخيرا بيان 30 مارس، فإن عصر السادات احتفظ بفكرة إصدار الوثائق السياسية إلى جانب الدستور، ومن الوثائق السياسية للنظام الجديد: برنامج العمل الوطنى، وورقة أكتوبر وورقة تطوير الاتحاد الاشتراكى.
لقد عاش دستور 1971 قرابة ثلاثين عاما وأدخلت عليه تعديلات عدة، وعندما قامت ثورة 25 يناير 2011 كان إسقاط هذا الدستور فى مقدمة مطالبها، فهل نالت مصر الدستور الذى تستحقه؟