تطوير جامعة الدول العربية: التحديات والفرص

ناصيف حتى
ناصيف حتى

آخر تحديث: الثلاثاء 15 مارس 2016 - 10:20 م بتوقيت القاهرة

‎شهدت جامعة الدول العربية التى تنتمى إلى الجيل الأول من المنظمات الدولية والإقليمية والتى أكملت عقدها السابع العام الماضى العديد من مشاريع التطوير. بعض هذه المشاريع رفع السقف عاليا فى طموحاته وأفكاره ومقترحاته، فجاء منقطعا عن الواقع العربى. بعضها الآخر جاء فى خضم لحظات اتسمت بمناخ أو طموح تغييرى ضاغط وسقطت مع انتهاء تلك اللحظة فى غياهب النسيان أو بقيت أفكارا ووجدت مكانها فى أرشيف الجامعة الغنى جدا فى هذا المجال. ذلك كله لا يعنى أن جامعة الدول العربية لم تشهد تطويرا لوظائفها أو بلورة لوظائف جديدة استقرت مع الزمن كما هى الحال فى العديد من المنظمات الدولية والإقليمية فيما يعرف بثنائية تطوير المهام وخلق مهام. لكن هذه الوظائف لم تكن أو لم تعد بمستوى التحديات والمهام الجديدة والمتجددة والمتزايدة والملقاة على عاتق بيت العرب والتى تستدعى تأسيس وظائف جديدة للجامعة أو تعزيز وتطوير وظائف قائمة فى مختلف المجالات. فبعض هذه التحديات، وهذا طبيعى، لم يكن قائما لحظة ولادة المنظمة العربية.

***
‎جملة من العوامل تحكم عملية تطوير جامعة الدول العربية وآفاق هذه العملية وهى:

‎أولا: طبيعة العلاقة التفاعلية بين النظام الإقليمى والمنظمة التى تعبر عنه مؤسسيا ويمثل الاتحاد الأوروبى فى جميع مؤسساته الحالة الأكثر تطورا أو تقدما لهذا التفاعل الدينامى الشامل بين النظام الإقليمى وإطاره المؤسسى. ومن الأبعاد المؤثرة جدا فى هذا الخصوص طبيعة النظام السياسى فى الدولة العضو: درجة مأسسة الحياة السياسية وحجم ووجود دور ناشط للمجتمع المدنى بجميع قواه ومصالحه وترسيخ شبكة من العلاقات العابرة للمجتمع المدنى الوطنى والتى تربط بين المجتمعات العربية المختلفة فى تشابك المصالح والأولويات والرؤى وتشكل مجتمعا مدنيا عربيا. يبرز ذلك مثلا على الصعيد الأوروبى بشكل خاص من خلال وجود نظام مساءلة ومتابعة ومراقبة من الداخل الوطنى على المستويين الرسمى والمدنى وفى مجالات عديدة وأساسية فى «الخارج» الإقليمى المؤسسى المشترك. فى الحالة العربية، توجد الكثير من هذه السمات التفاعلية ولكن على «الورق» بسبب غياب العناصر / الشروط المشار إليها فى البيئة الحاضنة. أضف إليها غياب الثقافة السياسية التعاونية التدرجية التى عادة ما تعبر عن حالة مؤسسية وسلوكية وقيمية متقدمة.

‎فى الحالة العربية عادة ما تحكم المزاجية السياسية التى قد تعبر فى لحظة معينة عن تلاقى مصالح طاغية ولكن متحررة من أى قيود مؤسسية أو ثقافية سياسية تعاونية، تعكس توازن القوى فى النظام العربى فى لحظة معينة ولا تشكل بأى حال سمة مستقرة فى العلاقات العربية العربية المشتركة. عادة ما يؤدى ذلك كله إلى بلورة موقف فاعل فى قضية معينة أو فى لحظة معينة وغياب كلى فى قضايا أو ظروف أخرى. فيبقى دور جامعة الدول العربية فى مجالسها المختلفة، والمجالس هى صانعة القرار، بمثابة منتدى للحوار أو للصدام أو لتسجيل موقف وعادة للتأكيد على مبادئ وثوابت وليس كإطار لبلورة سياسة. تبقى كآلية فقط لمتابعة وتنفيذ مسائل الحد الأدنى الإجرائية. وتبقى الجامعة العربية بمثابة الشماعة التى يعلق عليها الكل المسئولية المشتركة فى مسائل تخص الشرعيات والقضايا العربية دون الالتزام الضرورى لتوظيف القدرات المختلفة والمطلوبة لبلورة سياسات فاعلة خدمة لهذه القضايا. فيأتى الموقف المشترك أعلى بكثير من مستوى السياسات الوطنية فى هذا المجال وما توظفه هذه خدمة الموقف التى شاركت فى اتخاذه. وقد يبقى هذا الموقف الإعلانى العام بعيدا أو منقطعا عن هذه السياسات بالفعل. خلاصة القول فى هذا العنصر بالذات أن المتغير الأساسى والمؤثر موجود على مستوى طبيعة السلطة فى الدول العربية. فالكثير من الدول لا ترضى بالمساءلة فى الداخل الوطنى بسبب طبيعة السلطة السياسية فكيف ستقبل بالمساءلة من الخارج العربى الجماعى ولو فى مسائل أو مجالات محددة، أمرها أكثر من ضرورى لتنفيذ قرار متخذ وللحفاظ على مصداقية القرار ومصداقية متخذيه. فيبقى التعاون من عدمه عبر «البيت العربى» أسير أهواء السلطة فى كل دولة فى لحظة معينة. وخلاصة القول أن المسافة تبقى شاسعة بين القرار الجماعى وبين التنفيذ وعادة غياب التنفيذ.

‎ثانيا: أكثر ما يعبر عن جدلية العلاقة بين النظام الإقليمى العربى وجامعة الدول العربية، طبيعة القرارات العربية أيا كان المستوى السياسى لاتخاذها. فهى دائما تأتى فى صيغ إنشائية وصفية مطولة ومكررة دون أن تحمل أو تعبر عن مواقف تتسم بمقترحات أو سياسات عملية قابلة للتنفيذ. فيبقى القرار بطبيعته منقطعا عن الواقع أو تحديدا عن التعامل مع واقع معين بغية التأثير فيه: فالقرار يأتى بمثابة دعوة أو مطالبة أو مناشدة لعمل شىء ما ولكنه لا يحمل أفكارا محددة للعمل السياسى الجماعى. وبالتالى تبقى ترجمته إلى سياسات عملية أمر مفتوح لجميع أنواع التأويلات، وتصبح المؤتمرات الرسمية عامة (المجالس على جميع مستوياتها) بمثابة موعد موسمى مراسمى لابد منه حفاظا على الشكل ولو على حساب المصداقية الجماعية.
ما يسهل اتخاذ هذا النوع من القرارات عدم ترتيب أى سياسات أو إجراءات عملية أو استثمار لبعض الإمكانات بالنسبة للدول الأعضاء وقراراتها وسياساتها الوطنية. ومن السهل بعد ذلك أن يقال إن الجامعة العربية لم تنفذ قرارا لا يمكن تنفيذه أساسا فى صيغته المتوفرة وهو يفتقد إلى الإمكانات التى كان يجب أن توظف وطنيا وبشكل مشترك ليذهب فى سياق تنفيذى. فلا توجد آلية لإلزام الدول الأعضاء بتنفيذ ما اتخذته من قرار أو التزام: إنها وظيفة الشماعة بامتياز.

‎ثالثا: التراجع الحاد الذى أصاب الهوية العربية الجامعة وبشكل خاص فى بعدها السياسى. البعد الذى يشكل الدافع أو الضاغط أو المحفز للتعاون العربى العربى وذلك فى ظل إحياء الهويات ما دون الوطنية من مذهبية وطائفية وإثنية وغيرها العابرة للوطنية وكذلك الهوية السياسية الإسلاموية باتجاهاتها المختلفة. وقد شكلت الأخيرة جسر عبور لأدوار قوى إقليمية إسلامية مثل تركيا وايران. قوى يفترض أن تكون للمنظومة العربية أفضل العلاقات معها. لكن لا يجوز أن تكون هذه العلاقات على حساب البيت العربى وخصوصياته وأولوياته وسياساته المشتركة. فلم تعد شرعيات الهوية العربية التى تشكل خاصية أساسية للنظام الإقليمى العربى عنصر تأثير على المستويين الشعبى والرسمى كما كانت فى السابق تحفز ولو فى الحد الأدنى، وخاصة الرسمى، على العمل العربى المشترك. عنصر أساسى آخر زاد فى حالة التفكك العربى بشكل كبير وأحدث فراغ قوة فى النظام الإقليمى العربى تمثل فى استقالة أو تراجع عدد من القوى العربية الأساسية ولأسباب مختلفة عن لعب دور قاطرة النظام والمحددة الأساسية لأجندته وأولوياته بشكل مشترك كما كانت الحال من قبل. هذا الأمر أدى إلى أقلمة وتدويل التعامل مع القضايا العربية والإقليمية الحيوية وكذلك الأجندة والأولويات العربية فيما تراجع الدور العربى فى هذا الخصوص. هذا الوضع العربى شكل بيئة سلبية تجاه تفعيل دور الجامعة العربية فى القضايا العربية وتلك التى تهم العمل العربى المشترك.

‎رابعا: إذا كانت العناصر السابقة مقيدة بقوة وبشكل سلبى ولو بدرجات مختلفة فيما يتعلق بتطوير جامعة الدول العربية فى أدوارها ووظائفها. فإن هنالك عنصرا مستجدا حاملا للعديد من التحديات والفرص للإقلاع بعملية تطوير فعلية وفعالة «لبيت العرب»، ولو بشكل تدرجى. يتمثل ذلك فى انطلاق عملية التغيير التى انطلقت من تونس منذ أربع سنوات ومازالت فى بداياتها. فالعالم العربى دولا ومجتمعات وإقليم يعيش ارتدادات هذه العملية ولو بأشكال وسرعات مختلفة. عملية تغيير أحدثت زلزالا يشهد وسيشهد ارتدادات عديدة ولو فى أوقات مختلفة. التغييرات ستطال دون شك المستوى المجتمعى وكذلك الدولتى أو طبيعة السلطة. وقد تهدد التغيرات الوحدة الترابية للدولة الوطنية فى بعض الحالات إذا لم تحسن إدارتها. الزلزال طال وسيطال بشكل أكبر طبيعة النظام العربى وأنماط سياساته وأولوياته وقدراته. مجمل هذه التحديات ستؤثر بشكل كبير ومختلف عن الماضى فيما يتعلق بمسألة تطوير الجامعة العربية. أهم عناصر التغيير هذه كان إحياء المجتمع المدنى وعودة السياسة بما يحمله هذان العنصران من ديناميات مجتمعية جديدة: أهمها مسائل المشاركة والمسائلة والرقابة وتكوين السلطة. وستكون لهذه الديناميات انعكاسات على المستويين الداخلى والخارجى، حتى لو كانت مجمل أولويات المطالب داخلية فى المرحلة الأولى. لكن لا يمكن معالجتها بشكل ناجح من خلال القطيعة مع الجانب الخارجى. فلم يعد من السهل مثلا الإبقاء على قطيعة بين الخطاب الرسمى والممارسة أو السلوكية السياسية. كما أن مجمل المطالب التى تحملها حالات التغيير الشعبية وكذلك دروس ما حصل فى الدول التى لم تصلها بعد رياح التغيير، تستدعى التفكير بإصلاح استباقى فى الحالة الأخيرة مهما اختلفت خصوصيات هذه الدول وبالتالى مشاكلها وطبيعة أولويات مطالب مجتمعاتها .

خامسا: كل هذه التحديات لا يمكن التعامل معها بفعالية ونجاح على مستوى الدولة الوطنية فقط بل يستدعى الأمر تعاونا عربيا عربيا واسعا قائما على استكشاف وتحديد المصالح المشتركة وهى كثيرة أيا كان حجم هذا التعاون أو عدد المشاركين فيه. فلا يبقى التعاون العربى، أو لم يعد من الممكن أن يبقى، مجرد شعار يعبر عن تمنيات وأمانى بل يصبح حاملا لمشاريع ومضامين تخدم مصالح المجتمعات العربية بكافة أطيافها وكذلك أمن واستقرار وازدهار الدول العربية. أضف إلى ذلك أن عودة الصراعات الإيديولوجية، كما كانت فى الستينيات ولو تحت عناوين مختلفة، بين الدول وضمن الدول وكذلك صراع التغيير والحفاظ على الوضع القائم ولو مع بعض الإصلاح الشكلى التجميلى. كل هذه أمور تعكس الحاجة الملحة إلى ما يمكن إدراجه تحت عناوين المشاركة السياسية الواسعة ومأسسة السلطة ودسترتها ومحاربة التهميش والإقصاء الاجتماعى الاقتصادى. هذه العناصر الضاغطة والمتوالدة ستحمل مزيدا من التوترات فى الإقليم العربى وفى الدول العربية ولو بدرجات وأشكال وتعبيرات مختلفة. وتطرح بقوة مسألة البحث عن عقد اجتماعى جديد بين السلطة والمجتمع، أو مسألة بناء الاستقرار الشرعى المطلوب كبديل عن الاستقرار المفروض. هذه العناصر مجتمعة من اختلال التوازن البنيوى الاقتصادى والاجتماعى والتركيبة الديمغرافية التى تتمثل فى أكثرية شبابية حاملة لطموحات مشروعة فى المشاركة والعمل، وازدياد الفجوة الاجتماعية فى العديد من الدول العربية وثورة الهويات غير المطمئنة والخائفة ومسألة المشاركة السياسية الضاغطة وازدياد الصراعات الخارجية التى تتغذى على الصراعات الداخلية وتغذيها أيضا، تفرض أجندة مثقلة بالمهام على جامعة الدول العربية. الجامعة التى لا يمكن أن تستمر فى منأى عن التمخضات الحاصلة فى البيئة العربية. وبالتالى لن تستطيع الجامعة العربية أن تبقى عصية على التطوير الهيكلى والسلوكى الفعلى والعميق، كأن تبقى فى حلتها القديمة، دون أن تصل إلى حالة من القطيعة الفعلية وشبه الكلية مع النظام الذى تغير والذى يفترض أن تعبر عنه، تحمل قضاياه فى الخارج وتساهم فى معالجة مشاكله فى الداخل.


كاتب سياسى لبناني

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved