عن الصور والأحداث الزائفة!
محمود عبد الشكور
آخر تحديث:
السبت 15 مارس 2025 - 7:50 م
بتوقيت القاهرة
أعادنى هذا الكتاب المهم، والمدهش، إلى متعة قراءاتى القديمة فى كتب الإعلام، ولكن الكتاب الذى أتحدث عنه، والصادر عن دار العين، بإعداد وترجمة سهير صبرى، يبدو أكثر عمقًا بكثير بل ويبدو وكأنه كُتب اليوم، مع أنه صدر لأول مرة فى الولايات المتحدة فى العام 1962.
الكتاب بعنوان «الصورة والأحداث الزائفة» للمؤرخ دانيال بورستين (1914/ 2004)، وهو أحد الأسماء المرموقة أكاديميا وثقافيا، له أكثر من عشرين كتابًا، وحصل على جائزة البولتيزر فى التاريخ، وقد أحدث كتابه عن الأحداث الزائفة ضجة كبيرة، وترجم إلى لغات كثيرة، بل وصدرت منه عدة طبعات، ورغم أنه كتبه استلهامًا من وحى المناظرة الشهيرة بين جون كينيدى وريتشارد نيكسون فى العام 1960، ضمن صراع الوصول إلى البيت الأبيض، ورغم أنه كتاب انتقادى يهتم بشكلٍ خاص بالمجتمع الأمريكى، وتغيراته الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، نتيجة ثورة التكنولوجيا ووسائل الاتصال حتى العام 1962 فقط، فإن التحليل العميق لهذا المؤرخ الفذ، ورؤيته الذكية والمستقبلية، جعلتنا أمام قراءة معاصرة لتأثير وسائل الإعلام، مضافًا إليها ثورة وسائل التواصل الاجتماعى، التى تلقى إلينا يوميا بعشرات الأخبار الزائفة، والشخصيات الشهيرة، دون أى قيمة حقيقية، ودون أى إنجاز مستحق.
اختارت سهير صبرى أن تترجم فصلين فقط من الكتاب الأصلى، وجدتهما الأكثر أهمية ودلالة على التأثير المعاصر لما نستقبله فى كل ساعة من أخبار، والغريب حقا أن القوانين التى استنتجها بورستين من تطور وسائل الاتصال الأمريكية، تصدق الآن، وتعمل بطريقةٍ فعالة على العالم كله، بعد أن انتقلنا من مرحلة «القرية الإلكترونية»، على حد تعبير مارشال ماكلوهان الشهير، إلى مرحلة يمكن أن نسميها «عالم الحجرة الإلكترونية»، أى إن التأثير الذى يشرحه بورستين أصبح الآن ضخمًا وواسعًا وعميقًا.
لا يقصد المؤلف من تعبير «الأحداث المزيفة» أن تبدو تلك الأحداث كاذبة تمامًا، على العكس، فإنها فى الواقع أحداث ملتبسة وغامضة، مصنوعة وموجهة، ومخطط لها بعناية، ولكنها لا تعنى شيئًا، وليس لها أى قيمة، وإنما تستهدف ملء الفراغ، وسد الحاجة الهائلة للأخبار، وملء الهواء، تلبية لتطلعات وتوقعات لا نهائية من الإنسان المعاصر، وكثير من هذه التوقعات متناقضة، ولكن بسبب هذه التوقعات، نبحث عن أخبار وإنجازات وشخصيات غير عادية، ونستجيب لرغبة داخلية فى أن نقوم بأنفسنا بتشكيل العالم.
بهذا المعنى، فإن بروستين يرى الجمهور «شريكًا» فى صنع تلك الأوهام والأحداث الزائفة، ويرى أن وسائل الإعلام قد اكتشفت هذا الطلب المتزايد، وهذا النهم المعرفى الفارغ عند الناس، فبدأت فى تغذيته.
لم تعد المعادلة هى الكذب الصريح، فهذه صنعة البروباجاندا، التى تعتمد على المباشرة والبساطة، أما صناعة الحدث المزيف فتعتمد على التعقيد والالتباس وادعاء الأهمية، ومن سمات هذه الصناعة توليد أحداث تافهة من حدث تافه صغير، وتكاثرها وفقًا لمتوالية هندسية، وبلا توقف، وكأننا أمام محاولة لملء جوف وحش هائل، لا يتوقف عن الأكل.
يقدم بروستين نماذج كثيرة لهذه الأحداث المزيفة المصنوعة، مثل البيانات الصحفية الجوفاء، والمناظرات الرئاسية، التى لا تقدم أى شىء حقيقى، سوى براعة الرد وحل المشاكل فى دقيقتين، ودون فرصة للتفكير، ومثل التسريبات المقصودة كبالونات اختبار، ومثل التغطيات الصحفية التى لا تقول شيئا، ويضرب مثلا تحليليا لتغطيات الصحافة الأمريكية لحادث اختطاف ابن البطل والطيار الأمريكى الشهير لندنبرج، والتى كانت فى معظمها كتابة عن أحداث زائفة، لعدم وجود معلومات حقيقية وموثوقة.
يطوّر بروستين أفكاره أيضًا فى اتجاه صنع الميديا لشخصياتٍ زائفة لا قيمة لها، ويقدم تعريفًا صار شائعًا ومعتمدًا بأن «الشخصية الشهيرة هو شخص معروف بسبب شهرته»؛ أى ليس بسبب إنجاز أو بطولة، فيكفى أن يتكرر اسمه، وتنقل عنه أخبار أو صور أو حكايات، حتى يصبح مشهورًا، أما الأبطال الحقيقيون فهم بعيدون عن الشهرة، فإذا صاروا مشاهير استهلكت الميديا حضورهم فى جوانب تافهة، بعيدًا عن بطولتهم، فكأن الشهرة الجوفاء تخصم من رصيدهم، بينما تنفخ فى شهرة نكرات بالمعنى الكامل، تلبية لحاجة الجمهور إلى صناعة أساطير بديلة.
تراجعت فكرة البطل بالمعنى القديم، لصالح فكرة الشهرة الزائفة، فيمكن اليوم لأى شخص أن يصبح شهيرًا، إذا أمكنه فقط الوصول إلى الأخبار والبقاء فيها، ودون أى موهبة أو رصيد.. ويفرّق بروستين - بعبقرية - بين البطل الحقيقى القديم صاحب الإنجاز، وبين المشهور فى عالم اليوم، بقوله: «كان البطل يتميز بإنجازه، أما المشهور فيتميز بصورته أو علامته التجارية، البطل صنع نفسه، أما المشهور فتصنعه وسائل الإعلام، كان البطل إنسانًا كبيرًا، أما المشهور فاسم كبير».
وكأن الرجل يتحدث عن مشاهير نعرفهم اليوم، فى الميديا وفى وسائل التواصل الاجتماعى، ونعرف أنهم يصطنعون أحداثًا زائفة لكى يظلوا مشهورين، ولكنه يقول أيضًا إن البطل الحقيقى يصمد أمام الزمن، أما هؤلاء المشهورون المصنوعون فيذوبون تدريجيّا، ثم تصنع الآلة الإعلامية مشاهير غيرهم، أى إنهم يتم استهلاكهم بنفس الطريقة التى صنعوا بها.
ويقدم المؤلف نماذج لمشاهير أمريكيين فى مختلف المجالات، كانوا يومًا ملء السمع والبصر، ثم انطفأوا تمامًا، وكأنهم تبخّروا فجأة من عالم الأخبار، أو كأنهم صاروا موتى وهم على قيد الحياة.
لا توجد حتى تراجيديا فى سقوط المشاهير الوهميين، فالتراجيديا خاصة بالبطل الحقيقى، النبيل والعظيم الذى يرتكب خطأ يؤدى لسقوطه، أما هؤلاء المشاهير المزيفون فقد عادوا إلى مكانهم الصحيح المجهول، وبينما نفاضل بين الأبطال الحقيقيين بسبب فضائلهم العظيمة، فإن المشاهير المزيفون يمكن أن نقارن بينهم بسبب تباريهم فى التفاهة.
لقد ساهم الجمهور فى خلق هذه النماذج البديلة للأبطال الحقيقيين، فصنع مشاهير يشبهونه، وعندما يقلدهم، فكأنه يقلد نفسه، وكأنه يسخر من البطولة لصالح الزيف والتفاهة. كتاب عظيم يجعلنا نفهم هذه الفوضى، فى عالم اليوم، ويشعرنا بالمسئولية لتغييرها، لأننا متورطون حقا، فى صنعها وترويجها.