مصر وغزة والنظام الدولى
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 15 مارس 2025 - 7:55 م
بتوقيت القاهرة
الخطة المصرية لإعادة بناء غزة ولإدارة القطاع بعد انتهاء الحرب فيه مقرونة بالخطوط العريضة لإنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة تبنتها القمة العربية وأيدتها منظمة التعاون الإسلامى وأعربت عن مساندتها لها. الصين، وكذلك كبرى الدول الغربية ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة وإيطاليا، وهى كلها بدرجات متفاوتة تتبنى حجج إسرائيل، ساندت الخطة المصرية. هذا نجاح أولى له شأنه للخطة المصرية رغم المواقف الأمريكية المتضاربة منها ورفض إسرائيل لها. القارئات والقراء الكرام يعرفون أن الهدف من الخطة المصرية هو أن يثبت الشعب الفلسطينى على أرضه فى غزة وأن تنشأ دولة فلسطينية عاصمتها القدس، إلى جانب إسرائيل، كسبيل إلى الإنصاف الجزئى له وللتسوية النهائية للصراع العربى الإسرائيلى. هدف آخر ثانوى فى السياق الذى يشغلنا، رغم أهميته، هو وضع حد للضغوط الأمريكية على الأردن وعلى مصر لقبول سكان غزة المليونين فى إقليميهما. الدول التى تبنت وأيدت وساندت الخطة المصرية كانت بذلك وتلقائيا تصادق على الأهداف التى رمت إليها مصر من طرحها.
ما سبق جيد وهو السبيل الذى كان يجب سلوكه. إلا أنه يمكن تدعيم المبادرة المصرية بوضعها فى السياق الأوسع للنقاش الجارى فى العالم أجمع حاليا بشأن هيكلة النظام الدولى وتنظيم العلاقات الدولية. مناسبة النقاش هى أنه بعد تدمير غزة على عهد الرئيس الأمريكى جو بايدن، ثم اقتراح الرئيس الجديد دونالد ترامب التهجير القسرى لسكان غزة، عبَّر هذا الأخير وكرر التعبير عن رغبته فى ضم كندا وجزيرة جرينلاند الدانماركية إلى الولايات المتحدة، وفى استرجاع قناة بنما إلى إدارة بلاده ثم على مدّ ملكيتها إلى قطاع غزة نفسه. الرئيس ترامب فرض على الواردات من كندا رسوما جمركية مرتفعة من باب الضغط عليها. أغلب ذلك سبقت الإشارة إليه على هذه الصفحة منذ أربعة أسابيع مضت، ويضاف إليه الآن ضغط الولايات المتحدة على أوكرانيا من أجل أن تقبل بالتنازل عن أراضيها التى احتلتها روسيا فى سنة 2014 ثم فى السنوات الثلاث الأخيرة منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.
• • •
النقاش، على أهميته، بسيط وهو يدور حول السبيل إلى حفظ الاستقرار فى النظام الدولى. بدا للمحللين أن الولايات المتحدة، على عهد الرئيس ترامب، صارت غير راغبة فى أن تكفل هذا الاستقرار. من بين هؤلاء المحللين كثيرون استدعوا النظرية التى صكها أستاذ الاقتصاد السياسى الدولى تشارلز كيندلبرجر فى السبعينيات الأولى من القرن العشرين، وهى نظرية «الاستقرار المستند إلى الهيمنة». فحوى هذه النظرية هى أن النظام الدولى فى حاجة إلى دولة مهيمنة تشترك مع الدول الأخرى وإن كان بنسبة أعلى من التأثير، فى إرساء قواعد التعامل فى النظام الدولى، وهى دولة مهيمنة تنفق الموارد السياسية والمادية اللازمة لديمومة هذا الاستقرار. الدولة المهيمنة لا تفعل ذلك من قبيل السخاء والكرم وإنما لأن قواعد التعامل تكفل نظاما مستقرا يميزها ويعمل فى صالحها. الرئيس ترامب، ومعه اتجاه لا يستهان به يظنان أن الولايات المتحدة فى حاجة إلى هذه الموارد داخليا وأن إنفاقها على النظام الدولى لا يحقق للولايات المتحدة أى مصلحة ولذلك فالرئيس الأمريكى يخفض من مستواها ويلغى بعض أبواب منها تماما. والولايات المتحدة لا تكتفى بذلك بل هى تنسحب من بعض المؤسسات المسئولة عن إنشاء قواعد التعامل المذكورة وعن تطبيقها. يهمنا أن الولايات المتحدة وهى تسوق أسبابها فى تخفيض الموارد التى توفرها للمؤسسات الدولية أو إلغائها وفى الانسحاب منها أضافت معاداة هذه المؤسسات لإسرائيل كسبب للتخفيض أو الإلغاء.
نظرية «الاستقرار المبنى على الهيمنة» تقول إنه فى غيبة الدولة المهيمنة المستعدة لإنفاق الموارد اللازمة ينعدم الاستقرار. محللون متخوفون من ذلك، وهم يشاهدون مطالب الولايات المتحدة من كندا والدنمارك وبنما وأوكرانيا، يرون أن البديل سيكون نظاما دوليا قائما على توزيع مناطق النفوذ على الدول الكبرى. مناطق النفوذ هى مساحات جغرافية تمارس فيها دولة ما سيطرة اقتصادية وعسكرية وسياسية بدون أن تتمتع فيها بالضرورة بالسيادة القانونية الرسمية. هذا مفهوم سيئ الذكر صُكَّ بمناسبة مؤتمر برلين المنعقد فى سنتى 1884 و1885 الذى وزعت فيه القوى الأوروبية القارة الإفريقية فيما بينها ولذلك فهو مرتبط بالاستعمار الأوروبى فى إفريقيا.
• • •
سيكون مفيدا للخطة المصرية، ولاكتساب مزيد من المؤيدين لها أن تقرن حجة مصر فى الدعوة إليها عدم تصفية القضية الفلسطينية بالدفاع عن قواعد التعامل فى النظام الدولى ومؤسساته، أى بالدفاع عن القانون الدولى والنظام المؤسسى الدولى المعنى بتطويره وبضمان احترامه من أجل تحقيق السلم والأمن الدوليين وتنمية البلدان النامية وغير ذلك من أهداف النظام. من المفيد أيضا التشديد على التخوف من أن يؤدى انهيار قواعد التعامل فى النظام الدولى إلى العودة إلى نظام مناطق النفوذ الاستعمارى الذى عانت إفريقيا ومجمل العالم النامى فى آسيا وأمريكا اللاتينية كذلك فى ظله. يلاحظ أن نظام مناطق النفوذ أدى إلى التنازع بين الدول الاستعمارية حتى قامت الحرب العالمية الأولى بينها. حجة مصر ينبغى أن تربط بقاء الشعب الفلسطينى على أرضه بإعادة بناء غزة والتأكيد على احترام القانون الدولى، وبالحفاظ على النظام المؤسسى الدولى، وبرفض الرجوع إلى النظام القائم على مناطق النفوذ. الحجة بديهية فى شقها الأول مثلا، فالقانون الدولى يحظر التهجير القسرى، ولكن من المهم التأكيد على ذلك فى الأوقات الحالية التى نعيشها. ثمة من يقول إن الرئيس ترامب لا يكترث بقواعد أو بأفكار قديمة لم تنجح من قبل، مثل إنشاء دولة فلسطينية، فلا جدوى من التمسك بها بل ينبغى أن تقدم له اقتراحات جديدة. التمسك بالقانون الدولى وبالنظام المؤسسى الدولى يعنى أن هذا كلام لا ينبغى الاعتداد به.
وهى تدعو إلى تأييد حجتها المركبة بشأن غزة، يحسن أن تعمل مصر على تعبئة أطراف النظام الدولى إلى الحفاظ على قواعد التعامل فيه وعلى مؤسساته بشكل عام مجرد، وإن استدعى ذلك تطويرها تطويرا بعيد المدى وإعادة هيكلتها. نظرية الاستقرار المبنى على الهيمنة متشائمة وكذلك افتراض استبدال مناطق النفوذ بها. الدولة القوية المهيمنة المستعدة لإنفاق الموارد اللازمة للحفاظ على استقرار النظام ليست ضرورية فى عرف أستاذ أمريكى آخر طوّر نظرية «فيما بعد الهيمنة»، هيمنة الولايات المتحدة، فى منتصف الثمانينيات من القرن الماضى. روبرت كوهان صاحب هذه النظرية اعتبر أن التعاون متعدد الأطراف المتمثل فى الاتفاقيات والمنظمات الدولية كافى لضمان استقرار النظام الدولى. ربما كان كوهان يفكر عندما جاء بنظريته فى أن الولايات المتحدة ستبقى فى النظام وإن بمسئوليات أقل. الفارق الآن هو أن الولايات المتحدة تهدد بالانسحاب من النظام، غير أنه لا ينبغى أن يسمح لهذا الانسحاب بأن يؤدى إلى انهيار قواعد النظام ومؤسساته. القواعد الموحدة المستندة إلى المساواة القانونية بين أطراف النظام تحقق للضعاف بعضا من غاياتهم، وإن احتاجت إلى تعديلات وسبل لتطبيقها تطبيقا فعليا فعالا.
من يقوم بالتعبئة من أجل القواعد الموحدة للنظام الدولى لا بدّ ناجح فى مسعاه وحاصد لثماره. هذه القواعد ضرورية للتصدى للتحديات المشتركة التى تواجهها البشرية وهى عديدة. والولايات المتحدة نفسها لا يمكن أن تسحب نفسها منها لوقت طويل، إن انسحبت فعليا، لأن انسحابها يعنى انعزالها عن العالم فى وقت صارت غير قادرة فيه على فرض إرادتها على أطرافه. تخفيض الرئيس ترامب للموارد التى تقدمها بلاده للمؤسسات الدولية أو إلغاؤها كليا يعنيان عدم استطاعتها تحمل هذه الأعباء فكيف لها أن تفرض إرادتها على أطراف النظام الدولى؟ التناقض صارخ فى منهاج الرئيس ترامب.
إعادة بناء غزة مع بقاء الشعب الفلسطينى فيها، وإقامة الدولة الفلسطينية، من جانب، والدفاع عن القانون الدولى، والتعبئة من أجل الحفاظ على النظام المؤسسى الدولى وتطويره، من جانب آخر، مرتبطة ببعضها البعض. الشطر الثانى يعزز من الشطر الأول.
ستكون مصر الفائزة من الدعوة إلى هذا وذاك وهى دعوة ستعزز مكانتها فى النظام الدولى.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة