حكم الزعران

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 15 مارس 2025 - 7:40 م بتوقيت القاهرة

تابعنا بحزن وقلق ما وقع فى سوريا خلال الأيام الأخيرة وتبادل الأدوار بين الفرق المتناحرة من ضحية إلى جلاد. برز اسم مقداد فتيحة الذى نصب نفسه مدافعا عن الطائفة العلوية وتمركز بين طرطوس واللاذقية بعد أن شكل فى فبراير الماضى ما يسمى بلواء «درع الساحل» من بقايا القوات الخاصة للجيش السورى المنحل، لمواجهة ما وصفه بـ«انتهاكات الجولانى». استلهم هذا الاسم من ميليشيا «لواء درع الساحل» التى تكونت فى أواخر عام 2015، حين قرر بشار الأسد إعادة بناء الحرس الجمهورى، وكان مقداد فتيحة أحد رجالها، بل واتهم بارتكاب جرائم قتل فى حق المدنيين. تكرر أيضا الحديث فى السياق ذاته عن الأعمال الانتقامية التى اقترفتها «فصائل مستقلة وغير منضبطة» ردا على الخطاب التحريضى الطائفى الذى تبناه فتيحة وأعوانه.

تبادرت إلى ذهنى وأنا أراقب الأحداث التى تعصف بمنطقتنا العربية كلمات مثل «زُعران» و«شبيحة» التى ترددت بكثرة فى نشرات الأخبار منذ انتفاضات الربيع العربى عام 2011، نظرا لأننا نعيش فى «عصر المتعهدين» والحروب بالإنابة. الشبيحة هم رجال مسلحون قاموا بإرهاب المواطنين وتورطوا نظير مقابل مادى فى أعمال عنف ونهب لصالح النظام أو غيره من اللاعبين على الساحة السورية، وقد صرنا جميعا نستخدم الكلمة التى على ما يبدو انتشرت على الألسنة منذ منتصف سبعينيات القرن الفائت، حين قام بعض أفراد عائلة الأسد بجمع شباب من طائفة العلويين التى ينتمون إليها لكى ينفذوا بعض المهام لصالحهم. تمركز الشبيحة وقتها أيضا فى منطقة الساحل السورى، خاصة اللاذقية وبانياس وطرطوس، واشتغلوا بالتهريب خلال الثمانينيات وبداية التسعينيات، إذ كانوا يتاجرون ببعض السلع المدعمة فى سوريا ويبيعونها فى لبنان مثل السجائر والمنتجات الغذائية، وبعضهم بالطبع امتد نشاطه للأسلحة والمخدرات. لذا جاءت كلمة شبيح، من فكرة «الشبح» الذى يقوم بمهامه بسرعة وفى الخفاء دون أن يراه أحد، وقيل أيضا إن الكلمة اشتقت من اسم السيارة المرسيدس موديل S600 التى كان يطلق عليها «الشبح»، ويستخدمها المهربون لاتساع صندوقها الخلفى. تصدى لهم باسل، الابن البكر للرئيس الراحل حافظ الأسد، خلال التسعينيات نظرا لتوحشهم، ثم عادوا للظهور بقوة مع بداية الثورة السورية فى مارس 2011، بعد فترة من الكمون أو الاختفاء الظاهرى فى بداية عهد بشار الأسد. أما كلمة «زعران» فهى جمع «أزعر»، وهو رجل قليل الشعر متفرقه أو حيوان أبتر مقطوع الذنب، والأزعر تعنى أيضا السيئ الخلق، وجمعها الزُعر أى الشطار والعيارين.

•  •  •

البحث فى أصل هذه الكلمات وسياق ذيوعها يستحضر ظاهرة «الزعران والحرافيش» المملوكية الذين تم اعتمادهم أحيانا كأذرع شبه عسكرية لبعض الطوائف إن صح التعبير، وارتبط وجودهم بأوقات الفتن والقلاقل وباستخدام الأقليات والمهمشين لممارسة العنف تجاه المجتمع أو تجاه الطبقة الحاكمة. وهو ما يحدث عادةً حين تتراجع سلطة الدولة وتضعف مؤسساتها ويزداد الفقر والتفاوت الاجتماعى، إذ تظهر جماعات عرقية وقبلية وفئات مهمشة وزعامات دينية لتسد الفراغ وتفرض إرادتها، ويكون اللجوء لطرق غير شرعية لتلبية الاحتياجات، إيذانا باقتراب النهاية. حكى المؤرخون عن دور الزعران والحرافيش فى حواضر المماليك الكبرى وعلى رأسها القاهرة ودمشق، مثلما ورد فى كتب ابن كثير وابن بطوطة، فوصفهم هذا الأخير حين وصل إلى مصر عام 1326 م. بأنهم «طائفة كبيرة أهل صلابة وزعارة» ما يشى بحضور الحرافيش بقوة خلال فترة زيارته.

فى الشام كانوا يسمونهم بالزعران، أما فى القاهرة فكان يطلق عليهم الحرافيش، وقد ارتبط هؤلاء بالطرق الصوفية التى سيطرت على الحياة العامة فى مصر خلال العصرين المملوكى والأيوبى، وباتت كل طريقة تمتلك زاوية خاصة بها ولديها موارد مالية جيدة تأتيها من الأوقاف والتبرعات والصدقات، واستخدمت مجموعات الحرافيش فى أغراض انتقامية ودفاعية إذا لزم الأمر. حمل الزعران والحرافيش السلاح وشاركوا فى السلب والنهب وقتل الأبرياء ودخلوا فى الصراعات السياسية بين المماليك يدافعون عن مصلحة من يدفع أكثر، أى صاروا طرفا فى دوامة العنف الأهلى فى ظل القحط واشتعال الفتن خلال المرحلة الانتقالية بين المماليك البحرية والمماليك البرجية.

كان الزعران فى سوريا أشد عنفا وإجراما من الحرافيش فى مصر الذين ظلوا إلى حد ما تحت السيطرة، لكن بمرور الوقت صار فى الشام لكل حارة زُعرها، وفى مصر أصبح هناك «سلطان» للحرافيش، وتطور منصب هذا الأخير من مجرد شيخ لطائفة هامشية صوفية قوامها فقراء العامة إلى أحد الأعيان الكبار الذين أوكلت إليهم مهام جوهرية فى تلك الفترة، بل صار يشارك فى الحملات العسكرية فى ذروة الصراع المملوكى العثمانى وكون «ميليشيا» تحارب تحت عَلَم خاص بها. وحين خرج السلطان قنصوه الغورى على رأس جيشه من القاهرة عام 1516 لمواجهة العثمانيين فى مرج دابق، شمال حلب بسوريا، ضم إليه الحرافيش وزعيمهم.

•  •  •

عندما نراجع تاريخ الزعران والحرافيش ودورهم الاجتماعى والسياسى فى العصور الإسلامية الوسيطة، نلاحظ تشابه الأمور مع ما يجرى من حولنا الآن وما حدث خلال مراحل مختلفة فى أماكن أخرى من العالم، فقد ظهرت الميليشيات ومجموعات المرتزقة فى النمسا على سبيل المثال خلال العشرينيات بعد هزيمتها فى الحرب العالمية الأولى وفى ظل انقسام العائلة المالكة لمساندة طرف ضد الآخر. كما ظهرت «الميليشيا الفرنسية» تحت حكومة فيشى عام 1943 لمناهضة رجال المقاومة والاضطلاع بأعمال عنف ضد اليهود بإيعاز من هتلر. واستمر اللجوء إلى المرتزقة حتى بعدما اعتبرتهم الأمم المتحدة «خارجين عن القانون»، فهذا النهى لم يمنع فعليا بعض القادة والرؤساء من الاستعانة بمثل هؤلاء للقيام بمهام معينة دون تورط «رسمى»، وينطبق ذلك على مناهضة حركات التحرر فى الستينيات وزعزعة استقرار الدول الناشئة. ثم رأيناه بوضوح بعد انتهاء الحرب الباردة والاستعانة بشركات أمن خاصة للتدخل فى بقاع يشوبها الاضطراب مثل العراق وأفغانستان، بدلا من الجيوش النظامية.

امتلأت نشرات الأخبار بسيرة الميليشيات والشبيحة والزعران، صاروا جزءا من واقعنا، باعتبارهم ضمن أدوات الضبط الاجتماعى والسياسى، وصرنا نفرق بين أنماط البلطجية: شركات كبرى وعيال أشقياء وآخرون أقرب لمفهوم الفتوة و«القبضاى». جميعهم يفرضون سطوتهم بالقوة فى لحظات انفلات وانتقال من طور إلى طور، ويندرجون تحت إطار «اللعب بالنار».

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved