الأيقونات الإعلامية.. تأثيراتها ودلالاتها
صبرى حافظ
آخر تحديث:
الجمعة 15 أبريل 2011 - 9:55 ص
بتوقيت القاهرة
أثناء نقاش قديم.. قديم مع الراحل الكبير أحمد بهاءالدين عما كان يدور فى التليفزيون المصرى خلال عام 1969، من خطاب زائف يبرر الأمر الواقع، وكان هذا قبل أن يصبح الخطاب التليفزيونى نموذجا صارخا للدجل والتدليس فى عصر الهوان والتبعية أو عصر مبارك المخلوع، قال لى: «لو جاءوا بقرد ووضعوه على التليفزيون كل يوم، فلن يمضى شهر قبل أن يصبح حديث الناس، وقبل أن يبدأ نقاشهم كل يوم بالقرد قال كذا... والقرد أكد كذا.. وألم تسمع ما قاله القرد أمس... إلخ».
تذكرت هذا الحديث القديم والذى يقدم نموذجا بارعا على سطوة هذاالجهاز/ الوسيط الإعلامى وجبروته، وأنا أتلقى بعض التعليقات على مقال الأسبوع الماضى الذى تناولت فيه حتمية تغيير الوجوه فى الثقافة والإعلام. إذ يبدو أننى تصورت معرفة مسبقة بنظريات إعلامية واجتماعية معروفة على نطاق واسع فى الغرب، وأنا أتناول مسألة الأيقونات الإعلامية وحتمية تغيير الوجوه فى الإعلام المصرى، فى مقال الأسبوع الماضى. ولم أشرح الأمر بالقدر المطلوب، حول مفهوم الأيقونة الإعلامية وما تنطوى عليه من حمولات أيديولوجية تترسخ فى لا وعى المتلقى، وتساهم فى تفسيره للرسالة الإعلامية وفك شفراتها.
مما دفع البعض للدفاع عن بعض الأسماء التى ذكرتها، مثل منى الشاذلى ومحمود سعد، والزعم بتمييزها عن غيرها من الأسماء التى لم تجد من يدافع عنها، مثل تامر ابن أمين بسيونى، أيقونة التوريث الحية فى جهاز الإعلام الرسمى.
والواقع أن المكتبة الغربية تعج بالدراسات المهمة عن التليفزيون خاصة ودوره فى المجتمع والسياسة على السواء. فقد أصبح تأثيره الرهيب على الحياة الاجتماعية والسياسية موضوع دراسات موسعة ونظريات كثيرة بدءا من نظريات ماكلوهان الباكرة فى نهاية الخمسينيات عن العلاقة العضوية بين الوسيط والرسالة التى تصدر عنه، وعن الوسيط البارد والوسيط الساخن، والفرق بين محتوى الصورة وترسباته، ودلالات الكلمات المقروءة أو المطبوعة، مرورا بنظريات التعويض الاجتماعى Social surrogacy hypothesis التى يتحول فيها التليفزيون إلى بديل عن التشظى والوحدة والحرمان العاطفى، فحينما لايجد الإنسان من حوله، علاقات إنسانية حقيقية، يقيم علاقات متوهمة أو بديلة مع أشخاص مسلسلاته التليفزيونية المفضلة.
وهى مسألة تمنع تآكل احساسه بقيمته كإنسان بسبب ما تفرضه عليه الحياة الحديثة من عزلة ووحشة. لكن هناك أيضا بين تلك النظريات من يراه أداة لتكريس السلبية والغباء، أو حسب التعبير الأمريكى الشهير «مضغ اللبان العقلىchewing gum for the mind».
ولن أتطرق هنا إلى الجدل الذى يقول بأن التليفزيون ليس علاجا للوحشة، ولكنه من أسباب تناميها. ناهيك عن تأثيره على قواعد السلوك، وأنماطه، وتحديده لما هو مقبول وما هو مرفوض. أما النظريات التى درست تأثيرات مشاهدة التليفزيون على خلايا المخ، ومساعدته على إفراز المزيد من مادة الدوبامين Dopamine وهى المادة الحيوية لكثير من وظائف المخ النفسية، التى تساعد على التنويم وغيره من الوظائف اللاإرادية فحدث عنها ولا حرج، حيث أن هناك أكثر من دراسة أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن معدل إفراز هذه المادة الحيوية فى المخ يتناسب طرديا مع ساعات مشاهدة التليفزيون.
أما أكثر النظريات اتصالا بما أريد أن أوضحه هنا حول الأيقونة الإعلامية وسطوتها التأثيرية وحمولاتها الأيديولوجية، فهى تلك المتعلقة بقدرة هذا الجهاز الإيحائية والتنويمية معا.
أو ما يعرف باسم الافتراضات الإيحائية Cultivation Hypothesis، التى تزرع فى عقل المشاهد، بسبب الحالة التنويمية الناتجة عن زيادة إفراز مادة الدوبامين، الكثير مما تطرحه عليه هذه الأداة الإعلامية، بصورة يبدأ معها فى تكرار بعض المعلومات المشكوك فيها أو حتى الافتراضية التى تلقاها منها على أنها حقائق لا مماراة فيها.
فإذا ما أضفنا إلى هذا ما يعرف عن دور التليفزيون فى تعزيز ما يسمى بالذاكرة الانتقائية selective memory التى لا تنتقى بحرية فى حقيقة الأمر، وإنما تتذكر ما طرحه عليها هذا الجهاز باعتباره المكون الأساسى للمحفوظ المتاح لها استخدامه فى المحاججة والنقاش.
وهذا هو الأساس الذى تنبنى عليه نظريات الدعاية ودور التليفزيون البارع، ليس فى التسويق والإعلان فحسب، ولكن أيضا فى الغوغائية السياسية وكل ما يتصل بدورها الفعال فى تكريس الكثير من الأجندات المشبوهة، بما فى ذلك ما يمكن دعوته بالتثقيف السياسى، وهو أقرب إلى التجهيل السياسى منه إلى التثقيف. وقد برهنت الدراسات الإعلامية على أهمية هذه الأداة، إلى الحد الذى يوظفها الجيش الأمريكى الآن كأداة أساسية فى حروب الولايات المتحدة المختلفة، وفى إذاعة ما يريد إذاعته فى أرض العدو من رؤى ومعلومات وأفكار.
وما علينا إلا أن نتأمل عدد الدول الغربية (مثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا) وغير الغربية (مثل الصين وتركيا وإيران) التى تستثمر أموالا طائلة فى البث التليفزيونى الموجه باللغة العربية، كى ندرك الأهمية السياسية التى تعلقها هذه الدول على هذا البث، والدور الذى يلعبه التليفزيون فى تحقيق أجنداتها السياسية.
ولماذا نذهب بعيدا، فما علينا إلا العودة قليلا للوراء، ومراجعة دور هذا الجهاز المخزى أثناء الثورة، وهو النتيجة الطبيعية لكونة الذراع السياسى لنظام مبارك المخلوع. لأننا نعرف جميعا، ليس فقط العلاقة العضوية بين وزير الإعلام السابق وحرملك العائلة التى كانت حاكمة، ومخطط التوريث الذى حكم كل ممارسات السنوات العشر الأخيرة، ولكن أيضا دور أهم مؤسستين فى النظام البائد فى توجيهه والسيطرة على أدق تفاصيل خطابه، وهما مؤسسة الرئاسة وجهاز أمن الدولة.
ويعرف الجميع أن سيطرة هاتين المؤسستين لم تكن قاصرة على القنوات الرسمية وحدها، بل شملت كل القنوات التى تسمى بالخاصة أيضا، بل حاولت التأثير على القنوات الأجنبية التى كانت لها مكاتب فى مصر.
أعود بعد هذا كله من جديد إلى ما عنيته بالأيقونة التليفزيونية على وجه الدقة، حيث لا ينفصل دور الأيقونة عن هذا الدور الإيحائى وافتراضاته الاستزراعية التى تساهم فى تكريس اجندات سياسية، وخطاب سياسى بعينه، حتى ولو بدا أن ما تقوم به تلك الوجوه التليفزيونية هو نوع من الترفيه المحض. فالترفيه المحض نفسه رسالة سياسية.
يقول نيل بوستمان Neil Postman أحد منظرى التليفزيون البارزين، «إن سيطرة الترفيه والتسلية بدلا من البرامج التثقيفية يخلق مجتمعا جاهلا سياسيا ولا ذاكرة سياسية أو تاريخية له، وهذا فى حد ذاته من أهم أدوات زعزعة الديمقراطية» فالديمقراطية تعتمد على المعرفة والوعى العقلى بل النقدى بكل الخيارات المتاحة.
على عكس التسلية التى غرق فيها الشعب المصرى طوال الأعوام الثلاثين الماضية، حيث يمكننا القول عنه إنه من أكثر الشعوب تسلية وتشبعا بالمسلسلات وغيرها من التوافه التليفزيونية، إلى الحد الذى جعله من أقلها وعيا سياسيا، وبالتالى قبولا بالكوارث السياسية ومنها النظام البائد والتوريث، ولكن تلك قضية أخرى.
دعنا لا نستسلم لها كى نعود إلى أن أى أيقونة إعلامية، والأيقونة هى الوجه الإعلامى الذى يصبح من كثرة ظهوره معروفا، إلى الحد الذى لا يحتاج معه إلى تذكير المشاهد باسمه، وإن كان الجهاز يحرص على أن يكتبه لنا كل مرة، كى يكرس الاسم فى تلك الذاكرة الانتقائية، وكى لا تحتاج الأيقونة نفسها إلى ذكر اسمه أو اسمها أبدا.
وليس استخدام كلمة الأيقونة محض مصادفة لأنها مفردة دينية لها سحرها لارتباطها بأصولها المقدسة القديمة من ناحية، ولأنها جزء من كل أوسع يجعل من النادر التشكيك فى قيمتها أو أهميتها من ناحية أخرى.
حيث تصبح علامة لها محتوى ودلالات، وكما هو الحال فى أى علامة، بما فى ذلك المفردات اللغوية ذاتها، فإن العلاقة بين العلامة ومحتواها علاقة اعتباطية لكنها تترسخ فى الوعى على أنها حتمية وحقيقية. فأن نستخدم بالعربية كلمة شجرة كى تدل على ما نعرفه بهذه المفردة، بينما يستخدم الإنجليز أو الألمان كلمات أخرى للدلالة على الشىء نفسه، هى مجرد علاقة اعتباطية، ما أن تتكون حتى يصبح من العسير بل المستحيل تغييرها.
وهذا هو الأمر نفسه بالنسبة للأيقونة الاعلامية. فلا يمكن أن نتصور أن نستبقى كلمة شجرة، ثم نغير دلالاتها، فلا تعود تدل على الشجرة بل على شىء آخر مغاير لها، وفى حالة الثورة معاكس تماما لمعناها.
لهذا طالبت بالتغيير الجذرى لكل الوجوه الإعلامية. فلا يمكن أن نستبقى الوجوه الإعلامية القديمة، ونتوهم أن باستطاعة هذه الوجوه أن تغير جلدها، وأهم من هذا كله دلالاتها الأيقونية فى وعى المتلقى مائة وثمانين درجة.
فالدلالة الأيقونية لنجومية إعلامى مثل تامر أمين بسيونى، لا يمكن بأى حال من الأحوال فصلها عن منظومة الفساد وتوريث الآباء وظائفهم لأبنائهم، فى كليات الطب ثم فى بقية كليات الجامعة، وفى أجهزة الإعلام المختلفة... إلخ.
والدلالة الأيقونية لصحفى مثل محمود سعد ساهم بانبهاراته البلهاء، على الهواء مباشرة، فى صنع نجومية وعاظ جهلة، كان مستشارا فى مؤسساتهم الإعلامية الموازية، وصياغات إنشائية ركيكة تساهم فى تغييب الوعى وطمس العقل والتفكير، لا تنفصل بأى حال من الأحوال عن سياسات التجهيل، وإعلام التسلية الذى يتحدث عنه بوستمان.
كما أن الدلالة الأيقونية لمنى الشاذلى التى كانت تشارك مؤسستا الرئاسة وأمن الدولة فى تحديد ضيوفها، وأحيانا فى نوع الأسئلة التى توجه لهم، لا يمكن فصلها عن الإعلام الموجه الفاسد الفاقد للاستقلال والإرادة الحرة، حتى ولو بدا ظاهريا أنه حر، وليس جزءا من إعلام الدولة. فالدلالات الأيقونية القديمة تشوش على ما يبدو أنه خطاب مغاير وجديد، بصورة لا يمكن معها لهذا الخطاب أن يكون بحق مغايرا أو جديدا.