الاستعمار .. قديما وحديثا
جلال أمين
آخر تحديث:
الثلاثاء 15 أبريل 2014 - 7:15 ص
بتوقيت القاهرة
الاستعمار ليس إلا صورة حديثة لظاهرة قديمة جدا، هى سيطرة القوى على الضعيف، فكما أنه فى عالم الحيوان، تلتهم السمكة الكبيرة صغار السمك، يجور الإنسان القوى على الإنسان الضعيف وقد يحوله إلى عبد له، وتستولى القبيلة القوية على أرض القبيلة الضعيفة، وتقهر الطبقة القوية الطبقة الضعيفة، وتستعمر الدولة القوية الدولة الأضعف.
وعندما كنا صبية صغارا، كنا نعتبر أن الاستعمار هو المسئول عن كل ما كانت مصر تعانى منه من فقر وجهل ومرض، ولم نكن فى ذلك بعيدين عن الصواب. ولكنى عندما أعود بذاكرتى إلى تلك الأيام أتعجب كيف كان الاستعمار حينئذ ظاهرة بسيطة واضحة كالشمس، وكم كان علاجها أيضا بسيطا واضحا.
كم كان بيننا سعيد الحظ إذ كانت المشاكل والحلول بهذه البساطة والوضوح. إذن فلنقارن كيف كان الاستعمار حينئذ بما أصبح عليه الآن. كان الاستعمار فى طفولتى وصباى يأتى إلينا فى صورة احتلال عسكرى، والقضية الوطنية تتلخص فى حكمة واحدة: «الجلاء». ها نحن قد حققنا الجلاء ولم ينته الاستعمار، أى لم تنته سيطرة الدولة القوية على الدولة الضعيفة، بل اكتفى فقط بتغيير الأسماء. أصبح الآن من الممنوع استخدام كلمة «الاستعمار» نفسها، إذ يخشى من يستخدمها من أن يتهم بأنه لايزال يعيش فى الماضى، ويتكلم عن أشياء عفا عليها الدهر. ولكن الحقيقة غير ذلك. السيطرة هى كما كانت عليه عندما كنا نصفها بالاستعمار، بل ربما أصبحت أشد وطأة، والأهداف التى يرجى تحقيقها من وراء هذه السيطرة لم تتغير إلا فى أنها أصبحت أكثر سفالة. أما وسائل السيطرة فقد أصبحت تجرى سرا وفى الخفاء، بينما يجرى إنكارها فى العلن.
أما عن استمرار ظاهرة السيطرة فيمكن تفسيره بذلك القانون الطبيعى الذى ذكرته والذى يجعل السمكة الكبيرة دائما تلتهم السمك الصغير. وأما التغيرات التى لحقت بالأهداف والوسائل فلا أجد لها تفسيرا مقنعا غير التغيرات التى طرأت على التكنولوجيا المتاحة، فى طرق الإنتاج والاتصالات.
عندما أرسلت بريطانيا جيوشها لاحتلال مصر، فى سنة 1882، كانت الأهداف تتلخص فى أربعة أشياء: استغلال العمل المصرى الرخيص فى إنتاج القطن الذى تحتاجه الصناعة البريطانية، وفتح السوق المصرية أمام منتجات هذه الصناعة، واستثمار فائض رءوس الأموال البريطانية فى مجالات مدرة للربح، كمد خطوط السكك الحديدية مثلا، أو إنشاء شركات الكهرباء أو الترام، أو فروع لبنوكها، وتأمين الطريق الذى يصل بين بريطانيا ومستعمراتها فى آسيا، خاصة الهند. كان يجب إجبار السياسيين المصريين على تطبيق السياسات التى تتفق مع تحقيق هذه الأهداف، وكانت الوسيلة الوحيدة المتاحة حينئذ كهذا الإجبار هى الاحتلال العسكرى. فى العصر الحديث، مازال استخدام العمل الرخيص هدفا، وكذلك فتح الأسواق واستثمار فوائض رءوس الأموال وتأمين طرق المواصلات، ولكن أهم أنواع العمل الرخيص لم يعد العمل الزراعى، بل امتد ليشمل حتى خريجى الجامعات (الذين أصبحت تنشأ من أجلهم جامعات أجنبية)، وأهم أنواع السلع المطلوب فتح أسواق لها لم تعد المنسوجات، بل امتدت لتشمل السيارات والكوكاكولا بل وحتى الأسلحة. كما تغيرت مجالات الاستثمارات المربحة لتشمل كل شىء، من إنشاء مصانع لتجميع السيارات وأجهزة التكييف إلى فتح محلات لبيع سندوتشات ماكدولاندز. أما وسائل المواصلات المطلوب تأمينها، فقد تطورت من السفن والقطارات، إلى الطائرات والتليفونات، إلى الرسائل الإلكترونية.
لابد بالطبع من استمرار اخضاع السياسيين، كما كان الحال دائما، ولكن كم يبدو الآن مضحكا أن الإنجليز اضطروا إلى استخدام الدبابات فى 1942 لاجبار الملك فاروق على تعيين حكومة بعينها، بينما لم يعد يحتاج المستعمرون اليوم إلى أكثر من مكالمة تليفونية!
لا يجب أبدا أن نستغرب أن تحدث هذه التغيرات المهمة نتيجة لتغيرات تكنولوجية، فالتاريخ مملوء بتغيرات ليست أقل أهمية، حدثت نتيجة لتطور التكنولوجيا. فمنذ بضعة آلاف من السنين كانت القبيلة القوية تحتاج إلى إفناء القبيلة الضعيفة عن بكرة أبيها من أجل الاستيلاء على أرضها، ثم حدث تطور تكنولوجى سمح للعامل بأن ينتج من الأرض أكثر مما يحتاج إليه هو وأسرته لمجرد البقاء على قيد الحياة. فسمح هذا للقبيلة المنتصرة بأنه تحول أفراد القبيلة المهزومة إلى عبيد بدلا من قتلهم، إذ ظهر أن نظام العبودية أفضل وأكثر فائدة من الإبادة: إذ ما المانع من إبقاء المهزوم على قيد الحياة، فينتج ما يكفيه هو وأسرته، وينتج فوق ذلك فائضا لاستهلاك مالكه هو وأسرته؟
هكذا أدت التطورات التكنولوجية إلى تغيير شكل السيطرة وأساليبها من عصر إلى عصر، مرورا بعصور الاقطاع والرأسمالية والاستعمار القديم، وحتى عصرنا هذا، سواء سميناه عصر الاستعمار الجديد، أو عصر التبعية، أو حتى عصر احترام حقوق الإنسان!
المؤسف جدا فى هذا الأمر، أن الخطاب المستخدم الآن، فى ظل هذه الصورة الحديثة للاستعمار، هو عكس الحقيقة بالضبط. إنى لا أنكر أن الخطاب فى ظل الاستعمار القديم كان يتسم أيضا بدرجة عالية من النفاق (مثل الادعاء بأن الهدف هو نشر الحضارة والنهوض بالأمم المستعمرة) ولكن النفاق الآن وصل إلى حد غير مسبوق، وإلى حد تضليل عدد كبير من مثقفينا، بل ومفكرينا (إذ إن الوسائل التكنولوجية المستخدمة فى التضليل قد تقدمت أيضا)، فإذا بهؤلاء المثقفين والمفكرين يتكلمون وكأننا مستقلون حقيقة، وأصحاب إرادة حرة، وأن كل ما نحتاجه هو انتخابات «حرة» (يا حبذا لو حظيت أيضا بمراقبين دوليين!)، لكى يزدهر الاقتصاد ويعم الرخاء.
فى الخطاب السياسى السائد الآن، وفى المراسم الدبلوماسية والبروتوكولات، يعامل رئيس أى دولة، مهما كان ضعفها، المعاملة نفسها التى يحظى بها رئيس أقوى دولة. الجميع يستعرضون حرس الشرف لدى وصولهم للزيارة، ويخاطب بعضهم الآخر باحترام ظاهر، ونادرا ما يسىء أحدهم الأدب فى مخاطبة الآخرين أو فى الحديث عنهم، والمناورات العسكرية المشتركة تجرى وكأن الطرفين المشتركين فيها على قدم المساواة وتأتى وفود البنوك والصناديق الدولية وكأنها تتكلم بالنيابة عن هيئات محايدة، يتساوى فيها كل الأعضاء، ولا تسيطر فيها دولة على أخرى، فتملى هذه الوفود شروطها فى الخفاء، وبكل أدب، ولا يعلن للناس مضمون ما دار بالضبط فى المحادثات، فإذا بالحال يستمر بعد كل هذه الانتخابات والمراسم والمحادثات والقروض، كما كانت بالضبط قبلها، بل وربما أصبحت أكثر سوءا. المؤكد هو فقط استمرار سيطرة القوى على الضعيف، إذ لا يمكن أن نتصور أن تقابل السمكة الكبيرة فى طريقها سمكة صغيرة دون أن تلتهمها.