أثقل من جبل وأخَف من طير محَلِق
أهداف سويف
آخر تحديث:
الخميس 15 مايو 2014 - 7:50 ص
بتوقيت القاهرة
هى تسميها «سيرة ذاتية»، والسيرة الذاتية لرضوى عاشور هى أشمل مما عهدته السِيَر، فـ«ذات» رضوى تتسع ليس فقط لأسرتها وأحبائها وتلاميذها وعملها، وإنما لأشعار الشعراء ورسومات الفنانين ولأحجار الأرض وعمائر سكانها وتاريخ البشرية.
والمتأمل لسيرتها، ولمشروعها، لمؤلفاتها ومسار حياتها العملية يجد رضوى مشغولة بالتاريخ، ومشغولة بالحكى، ومشغولة بالشباب. تريد أن تعطيهم كل شىء، تريد أن تُمَلِكهم إرثهم، واثقة أنهم ــ إن تملكوا الماضى ــ سيولونه عنايتهم، سيعون دروسه، وسيستعملونه فى تصميم وتنفيذ المستقبل.
فى «أثقل من رضوى» (دار الشروق، ٢٠١٣) تحاول رضوى، مرة جديدة، أن تعطى كل ما تملك. نعرف أنها مشتبكة مع «ورم عدوانى شرس»، فتصف لنا ــ هى المُدَرِسة دائما ــ تفاصيل الاشتباك فى لغة عملية دقيقة جعلتنى أشعر أننى أمام دليل: إن جاءنى ما جاءها سأدخل إلى الفحوصات والجراحات متتبعة خطواتها، مستنيرة بخبرتها؛ لن أؤخذ على غرة. نعرف أنها ومريد أنتجا وأنشآ شاعرا عبقريا هو تميم، فتهدينا ومضات صغيرة حميمة من حياتهم، تميم دائم الحركة، تنبع منه دائما وتلفه عاصفة صغيرة، ومريد هادئ (ظاهرا)، ثابت ومثَبِت وحجر أساس. نعرف أنها أستاذة بكلية الآداب، جامعة عين شمس، فتعرفنا على جامعتها وعلى طلابها فى جمل تنبض بالاعتزاز.
وكل هذا يتداخل مع الثورة. مع الميدان وتحركها فيه حينا ــ تعزز فى وصفها ما شعرنا فيه من تجَمُعِية ونبل وشهامة وابتكار ــ ورؤيتها لمشهده الإعجازى من علٍ حينا. تحب فيه الشباب الثائر وتأسف وتجزع لما جرى لأفراد الجيش والشرطة: «من الذى علم أبناء الفلاحين أن يكونوا قتلة؟» تضع كل شىء فى نصابه. تفرح وتفخر بالألتراس: «نادرا ما أستخدم كلمات نابية، ولا أرتاح حين يستخدمها غيرى، ولكننى، إذ أنصت لهتافات الألتراس أستغرب لارتياحى، بل تقتضى الدقة الإفصاح عن طرب أشعر به حتى عندما يهتفون فى المدرجات وخارج المدرجات بألفاظ بذيئة منغمة، مغناة تقريبا. أطرب لسماعهم لا كصغير يثيره الممنوع، بل كراشدة تقر وتعترف أن الصفاقة لا تكمن فى هتافهم بل فى الفعل المتجبر لسلطة فاجرة فى سياساتها وسلوكها». وأفرح وأفخر أنا لأن رضوى تمثلنى.
الكل موجود هنا، أحمد الشحات ومينا دانيال وعلاء فايز وعلاء عبدالهادى ومصطفى سعيد وهند نافع واسكندريللا ونجلاء بدير ومالك عدلى ونوارة نجم وغيرهم وغيرهم. النص يدخل ليركز على الفرد أو الحدث، ثم يبتعد فيصف الحالة: «خيالى لم يستبق هذه المداورة الجهنمية حيث يُسفَك الدم، لا فى المواجهة الأولى وحدها، بل بعد «انتصار» الثورة، فى مذبحة تلو مذبحة، وواقعة بعد واقعة، دائما على خلفية الحديث عن «ثورة يناير المجيدة»، و«الشعب المصرى العظيم». لا يتركك النص تغفل لحظة عن أهمية الفرد، الإنسان من ناحية، ولا عن أهمية قراءة المشهد من الناحية الأخرى.
سردٌ هو فعل أمومة، وتعليم، وثورة، وفن. رضوى الأم تحاول أن تبسط أجنحة الحماية على كل من تحب وما تحب. ورضوى المدرسة لا تستطيع إلا أن تُعْلِم طلابها بالحقيقة، فالتعليم هو التمكين، تحكى لهم عن قصر الزعفران، وعن بيت أحمد عرابى. تكافح ضد منظومة طمس تاريخنا (المتسارع رتمها هذه الأيام)، وهدفها واضح. تقول «أردت الخوض فى هذا الحديث (حديث بيت أحمد عرابى، الكائن فى باب اللوق) لأننى أريد لسلمى سعيد وهى تلميذتى، التى أطلقت عليها المجنزرة ثلاث طلقات خرطوش فى كل خرطوشة منها ستون بلية أصابت وجهها واستقرت فى ساقيها، أن تعلم أنها أصيبت بالقرب من بيت عرابى، وأريد لأولادها من بعدها أن يعرفوا أن أمهم، وهى صبية فى العشرينات أطلق عليها النار فى هذا المكان. وأريد ألا ينسى أولادها ولا أحفادها ولا أحفاد أحمد حرارة ومالك مصطفى ومارى دانيال وأشقاء جابر صلاح أن أهلهم والمئات غيرهم ممن استشهدوا أو أصيبوا فى هذا المكان، كانوا وهم يصنعون له تاريخا جديدا، يتواصلون مع تاريخ لم يحكوا لنا عنه أو حكوا حكايات منقوصة. والأهم أننى أريد أن أقول القليل الذى عندى ليتكامل مع شهادات من شاركوا فى مواجهات شارع محمد محمود، وشارع الشيخ ريحان، وشارع يوسف الجندى، وشارع الفلكى، وشارع منصور وميدان باب اللوق، لكى لا يأتى يوم تقام فيه عمائر عالية، فنادق أو شركات، أو قاعات للألعاب الرياضية وكمال الأجسام يتردد عليها ناس يجهلون عن قصد أو غفلة أن هذه العمائر قائمة على أرض روتها دماء. دماءٌ كثيرة».
رضوى الثائرة، المنتصرة للحق دوما، حاضرة فى كل جملة. ورضوى الفنانة تستشعر الخطر الكبير الداهم، خطرٌ من دكانةٍ تكاد لا تسمح حتى بتحديد ملامحه. ورضوى الحكاءة تنسج كل هذا معا، فتخلق نصا هو تميمة وزادا للثورة والثوار. خذ مثلا حيلة أدبية رفيعة الإتقان ــ أو ربما ليست حيلة، ربما ليست إلا تجسيدا تقائيا لنمط وفلسفة حياة هى هنا ذات أثر أدبى بالغ: تصف رضوى، كما أشرت سابقا، تفاصيل الصراع مع المرض، من فحوصات، وجراحات، وجراحات فوق الجراحات وإشعاع وكيماويات متعاطاة. ويُفترض أن تجزع لها أنت القارئ، لكنك فى الحقيقة لا تجزع، فلغة السرد فى هذه المقاطع، بإصرارها على النبرة العملية، المقرة فقط للوقائع، تفرض عليك مسافة عاطفية لا تملك إلا أن تحترمها: الكاتبة لا تريدك أن تشعر بآلامها، فقط أن تعرفها. ولكن، ماذا تفعل، أنت القارئ، أنت القارئة، بهذا المخزون العاطفى الذى يتكون عندك وأنت تشهد تجربتها؟ آه، نأتى هنا إلى مقاطع الثورة، إلى إصابات العيون، إلى الشهداء وإلى الشوارع وإلى المشرحة، وهنا تتحرر اللغة، تسمح لك بالتماهى، بالجزع والحزن والغضب فيفيض مخزونك كله ويصب هنا. ادَخر عواطفك، يوجهك النص، لا تنفقها على أنا، كاتبة السطور، فِضْ بها على هؤلاء الشباب، احتضنهم، الشهداء منهم والأحياء، تماهى معهم وأحبهم. كن معهم، وكن مع ثورتهم.
من المفارقات أن هذا الكتاب، المنشور منذ أسابيع، يكاد يبدأ (وتحديدا فى الصفحة الخامسة من السرد) بحكاية واقعة الرابع من نوفمبر ٢٠١٠ (وكانت من العلامات الفارقة فى إرهاصات ثورة ٢٥ يناير) حين ذهب عشرة أساتذة من ثلاث جامعات إلى جامعة عين شمس حاملين حكم المحكمة الإدارية العليا الذى مَنَع تواجد الشرطة بصفة دائمة داخل الجامعات، وكان هذا انتصارا لـ«مجموعة ٩ مارس لاستقلال الجامعات» عملت من أجله سنوات وسنوات. وبالطبع لم يكن الحكم مُرضيا للسلطات وتم التهجم على الأساتذة والطلبة المساندين لهم عن طريق بلطجية محليين بقيادة «غريب» الذى ذاع صيته فيما بعد ــ والذى يبدو أنه ما زال يمارس سطوته فى هذه الجامعة ــ وحين ذاع الخبر فى الإعلام ــ الذى لم يكن وقتها «على قلب رجل واحد» ــ تصدى له رئيس جامعة عين شمس وقتها يتهم أساتذة «٩ مارس» بأنهم «قلة مندسة» جاءوا ليحدثوا «قلاقل». وتقتبس رضوى فى الكتاب من البيان الذى كتبَتْه ردا على بيان رئيس الجامعة تقول فيه: «ينطلق بيان رئيس الجامعة من تصور أمنى يرى أن لكل فرد سواء كان طالبا أو أستاذا حيزا مقررا لا يحق له مغادرته، ويعتبر الخروج عنه تعديا وتجاوزا.. ولا ينم هذا التصور عن رؤية تقييدية تقسم المجتمع ومؤسساته إلى سجون صغيرة فحسب بل، وهذا هو الأهم، ينسف فكرة الجامعة من أساسها».
وها نحن نجد أنفسنا نعود ــ فى الدائرة المتصاعدة التى نلف فيها ــ إلى وضع تعود فيه الشرطة ــ غير منصلحة ولا معادة هيكلتها ولا أى شىء ــ إلى الجامعات معززة مكرمة مطلوبة من إدارة الجامعات، بينما الطلبة ــ الذين يفترض أن الجامعات خلقت أصلا لخدمتهم وإتاحة التعليم (بكل ما يعنيه هذا المفهوم من خبرات) لهم و«تسليك» مخهم ووجدانهم لكى تنطلق طاقاتهم المبدعة فيفيدون مجتمعهم والعالم ــ ها هم مطاردون، مختطفون، محبوسون، معذبون، مقتولون. أنظر تقرير «ويكى ثورة» الأخير (http://tinyurl.com/n2n3won) الذى يسجل لعهد السيسى/ عدلى منصور إلى ١٥ أبريل ٢٠١٤ فيحصى ٢٩٩ طالبا قتيلا و٣٦٥٧ طالبا مقبوضا عليهم أو ملاحق فى مختلف أنواع الوقائع فى ٢٣ محافظة مختلفة. ولم تحصر ويكى ثورة كمية أموال الكفالات المحصلة منهم.
تسر رضوى بأنها تشعر أن كتابها لم يكتمل. ويفهم القارئ إحساسها هذا حين يعلم أنها انتهت من الكتابة فى مايو ٢٠١٣. فسيرتها ــ التى هى سيرتنا ــ مستمرة، و«السجون الصغيرة» ما زال النظام يجاهد ليقيمها ويحصرنا فيها. لكن، وكما تقول هى، «هناك احتمال.. لتتويج مسعانا بغير الهزيمة، مادمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا». أدعو الله أن يكرمنا، ويكرم الشباب، ويكرم الثورة والأدب، وينصر رضوى على العدو الذى يناورها ويهاجمها، لنقرأ لها نصا جديدا يفعل ما يفعله نصها هذا فيضىء لنا جوانب من عالمنا، يشعرنا بالرفقة فى المحنة، ويواسينا بامتداد التاريخ.
• أستسمح القارئ، فأنا لن أحفظ فقط الألقاب بل واسم العائلة أيضا؛ فرضوى صديقة قُربُها من نفسى يجعل من رسميات الحديث اصطناعا غير مقبول.