200 عام على وفاة «البطل والطاغية»
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 15 مايو 2021 - 9:55 م
بتوقيت القاهرة
مرّ يوم 5 مايو الماضى مائتا عام على وفاة نابليون. منذ ما قبل هذا التاريخ بشهور انقسم المجتمع السياسى فى فرنسا، وتكثف الانقسام باقتراب اليوم ثم فى اليوم نفسه وفى الأسبوع اللاحق عليه، حول الموقف من هذا التاريخ. هل هو مناسبة للاحتفال بالبطل الذى لمع اسمه فى تاريخ أوروبا والعالم أم أن الرجل الذى مات فى هذا اليوم كان طاغية ليس جديرا بأى احتفال؟ الانقسام فى المجتمع السياسى عكس معضلة غير جديدة فى الثقافة السياسية الفرنسية وبين المؤرخين الفرنسيين بشأن نابليون، كان الأسبوع الماضى شاهدا على دوامها. فضلا عن أن الرجل كان له تأثيره فى تاريخ أوروبا والعالم من خلالها، فإن فى الانقسام حول ميراثه ما يدعونا إلى الاهتمام به والتأمل فيه وذلك لسببين: الأول هو أن النقاشات حول رجال السياسة والعسكرية والحكم هى نقاشات طبيعية ومشروعة مهما امتد الزمان بعدها، وهى نقاشات بشأن الحاضر بقدر ما هى بشأن التاريخ، أما السبب الثانى فهو أن الرجل جاءنا إلى مصر، وإن كان اسمه المعروف به عند مجيئه بحملته قبل عام من نهاية القرن الثامن عشر هو بونابرت، أو بونابرته فى لغة الجبرتى، وخلّف وراءه جدلا مازال مستمرا حول معنى حملته وميراثها بعد قرون طويلة من الحكم المملوكى والعثمانى. هذا المقال لن يتطرق إلى هذا الجدل وإنما هو سينصب على الانقسام على تقويم الشخصية التاريخية لنابليون وميراثها لعل ذلك يساعد على تقبل النقاش والاختلاف بشأن شخصياتنا التاريخية نحن. معاييرك عند اتخاذ موقف من شخصية تاريخية ما هى قيمك التى تدافع عنها وتنادى بها.
***
اليمين الفرنسى دعا إلى الاحتفال بذكرى نابليون، الإمبراطور، وأخذ يعدد فى إنجازاته، وهى ليست بالفعل قليلة، وشدد على أنها هى التى أرست الأساس للدولة الفرنسية الحديثة، وهذه الإنجازات مؤسسات مازالت قائمة إلى اليوم. نابليون هو الذى أصدر القانون المدنى وهو جوهر القانون المعمول به حتى اليوم والذى كرّس مبدأ المساواة بين المواطنين وألغى طبقة النبلاء ومزاياها، ونابليون هو الذى أصدر كذلك القانون الجنائى، وأنشأ نظام المحافظين للوحدات الإدارية المحلية، وهو الذى أنشأ مجلس الدولة ــ ما يذكرنا بمجلس الدولة لدينا الناشئ فى أربعينيات القرن الماضى ــ ومحكمة المحاسبات ــ أصل ديوان المحاسبة أو الجهاز المركزى للمحاسبات عندنا أيضا ــ وشهادة البكالوريا، ومدرسة سان سير العسكرية العليا، والبنك المركزى الفرنسى، وغير ذلك. واهتم اليمين أيضا بإبراز العبقرية العسكرية الاستراتيجية لنابليون التى تجلت فى انتصاراته بعرض أوروبا وطولها، وهو الجنرال ثم الإمبراطور الشاب فى العشرينيات والثلاثينيات من عمره. وزاد اليمين على ذلك التنويه بالمجد الذى أسبغه نابليون على فرنسا. ولكن اليمين توقف عند ذلك، ولم يخض فى تفسير هذا المجد والتفصيل فيه إما لأنه لم يجد ضرورة لذلك، أو لأنه، وعن وعى، لم يرغب فى إثارة حفيظة من قام هذا المجد على حسابهم وهم حلفاء فرنسا اليوم. سنرجع إلى هذه النقطة فيما بعد.
على العكس من ذلك، اليسار عارض الاحتفال بالمناسبة، وهو وإنه لم ينكر إنجازات نابليون، فهو أدانه أشد الإدانة. حيثيات اليسار فى ذلك هى أنه، وهو لم يزل بعد بونابرت، قام بالانقلاب على الثورة الفرنسية وأنهاها هى والجمهورية الأولى التى أنشأتها فى نوفمبر 1799، وأقام محلها نظاما سلطويا على رأسه ثلاثة حكام لقّبوا بالقناصل كان هو القنصل الأول بينهم والحاكم الفعلي؛ ثم إنه أعلن نفسه قنصلا مدى الحياة فى سنة 1802، وما لبث بعدها أن تَوَّجَ نفسه إمبراطورا فى سنة 1804 متخذا اسم نابليون الأول، على غرار الملوك والأباطرة الذين يعرفون بأسمائهم الأولى وليس بألقابهم، ومُنشِئَا نظاما سياسيا سلطويا أراده وراثيا. هل من تقويض أكثر من ذلك للثورة وللجمهورية، رمز المساواة وعدم التمييز بين البشر على أساس الميلاد؟ اليسار أخذ أيضا على نابليون إعادته للعمل بنظام العبودية فى المستعمرات الفرنسية فى البحر الكاريبى فى سنة 1802 بعد أن كانت الجمهورية الأولى قد ألغت العبودية وأعتقت العبيد فى سنة 1794. بالنسبة لليسار هذا تقويض آخر لمبادئ الثوة الفرنسية. أما عن المجد فاليسار يعتبر أن نابليون أراده لنفسه، وأن إرادته هذه فضلا عن منظوره العسكرى لأمور السياسة دفعاه للانتقال من الحروب دفاعا عن الثورة إلى حروب توسع راح ضحيتها ما يقدر بمليون من الجنود الفرنسيين، وينوه اليسار بالذات باحتلال نابليون لإسبانيا فى سنة 1808وفرض شقيقه ملكا عليها، ثم بكارثة غزوه الفاشل لروسيا فى سنة 1812. وأخيرا، أشار اليسار إلى تراجع نابليون عن المساواة التى أقرتها الثورة والجمهورية الأولى للمرأة، فالقانون المدنى الذى أصدره يكّرس دونية المرأة فى المعاملات التى يحكمها.
الانقسام فى المواقف من نابليون، الذى أُوجِزَت حيثياته أعلاه، ليس جديدا كما ذكر فى بداية المقال، وهو ما يجعلك لا تجد شارعا أو ميدانا واحدا فى فرنسا، بخلاف مسقط رأسه جزيرة كورسيكا، يحمل اسمه، وإن وجدت شوارع صغيرة باسم بونابرت، على الرغم من أن الرجل مدفون فى المقابر التذكارية لعظام فرنسا فى «الأنفاليد». تناقض يعكس تناقضات الرجل.
***
الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، تردد فى الموقف الذى تتخذه الدولة من يوم 5 مايو، وهو لم يغب عنه بالضرورة أن رئيسا فرنسيا ينتمى إلى اليمين وليس اليسار، هو جاك شيراك، ألغى فى آخر لحظة فى سنة 2005 الاحتفال بذكرى مرور مائتى عام على واحدة من أهم انتصارات نابليون العسكرية، وهى انتصاره فى معركة أوسترليتز على الإمبراطورية النمساوية فى سنة 1805. الرئيس ماكرون حسم تردده بأن قرر إحياء ذكرى وفاة نابليون وليس الاحتفال بها، وهو ذهب إلى معهد فرنسا، أعلى سلطة للمعرفة فى البلاد، ليلقى كلمة عدَّدَ فيها إنجازات نابليون وإن لم يسكت على بعض نواقصه.
إلغاء الرئيس شيراك للاحتفال بذكرى معركة أوسترليتز، وعدم تفصيل اليمين الفرنسى فى «المجد» الذى يرى أن نابليون أسبغه على فرنسا، جديران بالتوقف عندهما، ففى معناهما ربط بين الماضى، وإن عاد إلى قرنين أو يزيد من الزمان، واللحظة الحاضرة. بالتأكيد المجد لم يكن فى اندحار الإمبراطور فى روسيا ولا فى فشله فى إسبانيا ولا فى هزيمته البحرية فى معركة الطرف الأغر أمام الأسطول البريطانى، ولا طبعا فى اندحاره الأخير فى معركة واترلو. «المجد» المذكور هو فى انتصاره فى المعارك التى خاضها فى إيطاليا وخصوصا فى الأراضى الألمانية، وضد النمسا وبروسيا بالذات، بروسيا التى وحدّت ألمانيا بعد ذلك بعقود. نابليون ورث الحروب عن الجمهورية التى انقلب عليها، وهى كانت فى البداية حروبا شنتها الدولتان الألمانيتان الكبيرتان، بروسيا والنمسا، ومعهما دويلات كبرت أو صغرت من الدويلات الألمانية العديدة، ومن ورائها كلها إنجلترا، على الثورة الفرنسية وقيم الحرية والمساواة والإخاء التى أعلنتها. هذه كانت حروب النظم المحافظة والرجعية القائمة على تميز طبقة النبلاء والتراتبية بين البشر ضد الحرية والتقدم. غير قليلين فى ألمانيا رحبوا فى البداية بالثورة الفرنسية بل بنابليون ولكنهم ما لبثوا أن انقلبوا عليه. أدخل نابليون قانونه المدنى فى ألمانيا، فألغى امتيازات النبلاء أمام القانون، وقرر المساواة بين البروتستانت والكاثوليك فيها. غير أنه وفى نفس الوقت فرض حصارا بحريا على أعدائه الإنجليز مانعا أى تبادل تجارى بين الإمارات والدويلات الألمانية، من جانب، وإنجلترا، من جانب آخر، فأضر بذلك الإنتاج الألمانى ومصادر الدخل للطبقات المالكة والعاملة معا. وهو بعد ذلك كبّل بالضرائب الإنتاج فى الأراض الألمانية التابعة له فى الوقت الذى شجع فيه الصادرات الفرنسية إلى نفس هذه الأراضى الألمانية، وحارب الصناعات المعدنية على ضفاف نهر الراين لمصلحة الصناعات المعدنية الفرنسية. باختصار أراد نابليون إرساء نظام استعمارى فى قلب أوروبا. نجح الأوروبيون فى استعمار أفريقيا وآسيا، دعك من القارة الأمريكية، نتيجةً للتفاوت الهائل فى التكنولوجيا المتوطنة لديهم، وبالتالى فى السلاح المتوافر لهم مقارنة بذلك المتاح لأبناء أفريقيا وآسيا. فات رجل الاستراتيجية العسكرية أن شرط النجاح فى استعمار الآخرين وفى استغلالهم اقتصاديا ليس متوافرا له فى أوروبا. وهو وإن كان قائدا عسكريا فذا فالسلاح لدى أعدائه شبيه بذلك الذى تمسك به أيادى قواته والخيل هى الخيل. ثم إن بلدان أوروبا اجتمعت عليه وقد دُمِرَ «جيشه الكبير» فى روسيا ولم يبق له عند نهاياته غير قوات من الشباب ناقصى التدريب تعوزهم مركبات ذلك الزمان، أى الخيل الكافى. أضف إلى ذلك أن القرن التاسع عشر هو قرن القوميات. فرنسا دولة قومية، أى وطنية، منذ نهايات القرن الخامس عشر، ولكن هذه ليست حال ألمانيا. ثمة من يرون أن طموح نابليون إلى السيطرة على ألمانيا، أشعل فيها فتيل الشعور القومى حتى توحدت فى سنة 1871 بعد حرب أخرى مع فرنسا. بقية تاريخ البلدين فى القرن العشرين معروفة. لا الرئيس شيراك فى سنة 2005، ولا الرئيس ماكرون فى الأسبوع الماضى، ولا اليمين الفرنسى، أيا كانت يمينيته، كانوا فى وارد إعادة إشعال النعرات القومية مع ألمانيا، ولا استثارة حلفائهم الآخرين فى النمسا، وإسبانيا، وبولندا، وبريطانيا، وغيرها.
***
فى حيثيات اليمين واليسار وفيما سكتا عنه، وفى موقفى الرئيسين شيراك وماكرون من إحياء ذكرى وفاة نابليون ما يبيّن أن معايير اليوم واعتباراته تحكم المواقف من الشخصيات التاريخية. ولأن المعايير والاعتبارات تختلف بين التيارات السياسية فالمواقف لن تكون واحدة. غير أنه فى تقارع هذه المواقف تكمن الدروس التى يستفاد بها لبناء المستقبل.
درس واحد واضح وضوح الشمس: أيا كانت عبقرية الفرد فإنه غير قادر وحده على الإلمام بكل أبعاد الواقع المحيط به.
حكم الجماعة لنفسها يزيد من قدراتها ويدعم مناعتها.