عباس عمَّار وبرنامج التشغيل العالمى
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 15 يونيو 2019 - 10:20 م
بتوقيت القاهرة
عبّاس عمّار هو عالم أنثروبولوجيا، من أعلام العلم الاجتماعى والثقافة فى القرن العشرين. ولد فى قرية شما بمركز أشمون بمديرية المنوفية فى سنة 1907، حصل على ليسانس الآداب من مدرسة المعلمين العليا فى سنة 1930، ثم على ليسانس فى الجغرافيا من جامعة فؤاد الأول فى سنة 1931، وبعدهما على درجة الدكتوراه فى علم الأنثروبولوجيا من جامعة كامبريدج فى سنة 1946 عن رسالة موضوعها «الناس فى الشرقية.. الأنثروبولوجيا الاجتماعية والاقتصادية». بعد سنة 1952، فى عهد الثورة الأول، شغل الدكتور عباس عمّار منصب وزير الشئون الاجتماعية فى حكومة الرئيس محمد نجيب الأولى، ونفس المنصب ثم منصب وزير المعارف العمومية فى حكومته الثانية، وهو ذات المنصب الذى تولاه فى حكومة الرئيس جمال عبدالناصر الأولى. غير رسالته لنيل شهادة الدكتوراه، كان أول كتبه الصادر فى سنة 1930، وهذا هو المدهش فى مثقفى ذلك الزمان، عن «أبونواس، حياته وشعره.. بحث وتحليل». أما كتابه الثالث، فهو فى تخصصه العلمى وعنوانه يكفى للدلالة على مضمونه وعلى كنه مؤلفه: «سيناء المدخل الشرقى لمصر ــ أهمية شبه جزيرة سيناء كطريق للمواصلات ومعبر للموجات البشرية». لاحظ أن هذا الكتاب صدر فى سنة 1946! هذا الكتاب بالذات أعاد إصداره فى بيروت فى سنة 2014 المركز العربى للأبحاث ودراسات السياسات.
غير قليلين فى مصر يعرفون قدر الدكتور عبّاس عمّار، ولكنهم فى تناقص واسمه ليس من تلك التى لا تبرح وسائط الاتصال تلقى الأضواء عليها. للتذكير به أعلاه ما يبرره تماما. غير أن المناسبة فى هذا التذكير كان احتفال منظمة العمل الدولية فى الأسبوع الماضى بالعيد الخمسين لنشأة برنامج التشغيل العالمى والذى يتفق مع العيد المئوى لتأسيس المنظمة نفسها. امتلأت واحدة من القاعات الكبيرة فى المنظمة عن آخرها، ولم يكف المدير الأول للبرنامج، الذى أنشأه فى نهاية الستينيات من القرن العشرين وبداية السبعينيات منه، وكذلك كل من عاصروا هذا الإنشاء وعملوا فيه فى شبابهم المبكر، لم يكفوا عن الحديث عن الدكتور عبّاس عمّار الذى تولّى الإشراف على البرنامج، وعن فضله فى تأسيسه، وفى الدفاع عنه، وفى تعبئة الموارد له.
كمواطن فى بلد من العالم الثالث وكمثقف من مثقفيه، استشعر الدكتور عبّاس عمّار أهمية قضية التشغيل كمدخل لتنمية البلدان المُنعَتِقَة من الاستعمار لتوها فى عقد الستينيات من القرن الماضى ولغيرها من البلدان المتطلعة للتنمية. استراتيجية التنمية الأولى للأمم المتحدة فى عقد الأمم المتحدة الأول للتنمية كانت قد ركزت على النمو الاقتصادى والارتفاع بمعدله. برنامج التشغيل العالمى اعتبر هذا المعيار وحده غير ذى دلالة وأراد تعدّيه. فى سنواته الأولى، أرسل برنامج التشغيل العالمى بعثات ثلاث، كل إلى بلد فى قارة من القارات الثلاث للعالم النامى، لتجرى فيها دراسات شاملة عن قضية التشغيل ولتخرج بتوصيات بسياسات للتصدى لها. بعثة ذهبت إلى كولومبيا، والثانية إلى سيلان أو سريلانكا الحالية، والثالثة إلى كينيا. كان من نصيب مصر واحدة من آخر بعثات البرنامج فى سنة 1981.
***
ليس هذا المقام لدراسة برنامج التشغيل العالمى ولتقويمه. تكفى إشارات سريعة لبعض عناصره كما اتضحت من مجهوده البحثى واسع النطاق فى مسألة التشغيل ومحدداتها، ومن التقارير الإضافية لبعثاته الثلاث الأولى. أغلب هذه العناصر مازال على أهميته حتى يومنا هذا، بما فى ذلك لمصر ولبلداننا العربية. اعتنق البرنامج فى السبعينيات مقاربة تحقيق «الاحتياجات الأساسية» لسكان الدول النامية. احتياجات السكان إلى المسكن والغذاء والملبس والتعليم والعلاج هى ما ينبغى أن يحققه العمل لكل منهم. بهذا يتحقق القضاء على الفقر على الأقل، وهذا أضعف الإيمان. اشتهرت هذه المقاربة عن برنامج التشغيل العالمى وإن لم يكن هو من ابتدعها. من الموضوعات التى بحث فيها البرنامج أيضا العلاقة بين التكنولوجيا والتشغيل، والتكنولوجيا الملائمة للنهوض به فى بلدان العالم الثالث. ودرس البرنامج أثر نمو السكان على مسألة التشغيل والتنمية، والعكس أيضا أى أثر سياسات التشغيل والتنمية على نمو السكان. وانكبّ برنامج التشغيل العالمى على الفقر فى المناطق الريفية وعلى توزيع الأرض الزراعية فيها، ودعا إلى الإصلاح الزراعى، ونسارع إلى القول بأن الإصلاح الزراعى فى صلب الوصفة الأمريكية للتنمية الرأسمالية، ولقد دعت الولايات المتحدة له وعملت على تطبيقه فى كل من اليابان وكوريا الجنوبية بعد الحرب العالمية الثانية. وتناول برنامج التشغيل العالمى مسألة العلاقة بين التعليم والتشغيل فى تقرير بعثته إلى سيلان. سجل التقرير أن ثمة هوةً بين عرض العمل متمثلا فى مخرجات العملية التعليمية وتباينا بينه، من جانب، وبين الطلب على العمل، من جانب آخر، واعتبر أن هذه الهوة من أسباب البطالة. ولكن التقرير لم يلق باللائمة على من يعرضون قوة عملهم ولا يجدون من يطلبها. هو شدد على أن المعروض من فرص العمل منخفض الإنتاجية ضعيف الأجور لا يناسب قوة العمل متزايدة التعليم. هل يعفّ الناس عن التعليم ليشغلوا فرص عمل رديئة منخفضة المردود لا تفى باحتياجاتهم، بحيث لا يؤدى العمل فى النهاية وظيفته المفترضة، وهى تلبية احتياجات الناس؟ برنامج التشغيل العالمى دعا إلى أن يواءم التعليم الطلب على العمل، ولكنه أقرن ذلك بضرورة رفع مستوى فرص العمل بإدخال تغييرات هيكلية على الاقتصاد.
***
موضوع آخر عظيم الأهمية كان له مكان واسع فى برنامج التشغيل العالمى وبرز فى تقريرها عن كولومبيا هو العلاقة بين توزيع الدخل والثروة، من جانب، والتشغيل، والتنمية عموما، من جانب آخر. تركيز الثروة والدخل يحدّ من الطلب على السلع والخدمات وبالتالى، على إنتاجها وعلى العمل الضرورى لهذا الإنتاج. من هنا تنشأ البطالة ولا تنتج السلع والخدمات الضرورية لتلبية «الاحتياجات الأساسية» للناس على أقل تقدير. تركز الثروة والدخل يبقى على الاقتصاد صغيرا فقير الدم، ويبقى على قوة العمل فيه فقيرة فى الدخل وتعانى فعلا، لا مجازا، من فقر الدم. فى النظام الرأسمالى نفسه، إعادة توزيع الدخل مفيدة لأصحاب العمل، الذين يزيد إنتاجهم ودخلهم، وللفقراء وكذلك العمّال، الذين يرتفع دخلهم فيلبّون احتياجاتهم المعيشية.
تصدّى البرنامج أيضا للتجارة الدولية وهداه بحثه وكذلك دراسته لاقتصاد كولومبيا أولا إلى الدعوة إلى إعادة هيكلتها. هذه الدعوة فى جوهرها هى مساندة لمنهج التصنيع للإحلال محل الواردات، وكيف لا وواحد من نجوم بعثات البرنامج هو الاقتصادى البريطانى، ألمانى المولد، هانس سينجر، وهو مع الاقتصادى الأرجنتينى راوول بريبيش زعيما المدرسة الهيكلية فى التنمية التى دعت فى الستينيات إلى إعادة هيكلة اقتصادات الدول النامية، وإلى تصنيعها تصنيعا يحل محل وارداتها من الدول المصنعة، وهو ما يعنى فى نهاية الأمر إعادة هيكلة الاقتصاد العالمى. الطابع الراديكالى لبرنامج التشغيل العالمى واضح.
غير أنه ربما كان أهم ما أضافه برنامج التشغيل العالمى من حيث النظرية والسياسات هو مفهوم القطاع غير المنظم. هذه إضافة أثرت علم الاقتصاد بل وعلوما اجتماعية أخرى مثل الاجتماع والسياسة والدراسات الحضرية. لاحظ أعضاء بعثة البرنامج إلى كينيا فى سنة 1972 وجود أنشطة عديدة يمارسها الناس ولكنها لا تدخل لا فى حسابات قومية ولا بالطبع فى الناتج المحلى الإجمالى. ومع ذلك فهى أنشطة حقيقية تدر على من يمارسونها دخولا تموّل طلبهم على السلع والخدمات وتشترك فى تنشيط الاقتصاد. لأنها ليست معترفا بها ولا هى تدخل فى أى إطار لتنظيم الاقتصاد، اعتبر أن هذه الأنشطة تشكل قطاعا غير منظم. لم ينظر برنامج التشغيل العالمى إلى هذه الأنشطة على أنها ارتداد إلى الاقتصاد البدائى، وهو لم يرها منفصلة عن الاقتصاد الحديث. فى نظر البرنامج القطاع غير المنظم يولّد دخولا تموّل الطلب على السلع والخدمات التى ينتجها القطاع الحديث فى الاقتصاد، كما أن هذا القطاع الحديث يشترى منه مدخلات لإنتاجه. هكذا فنّد مفهوم القطاع غير المنظم، كما طوره برنامج التشغيل العالمى، نظرية الاقتصاد المزدوج إلى تصورات اقتصادات البلدان النامية من قطاعين، حديث وتقليدى، يعمل كل منهما بمنأى عن الآخر لا رابط بينهما. لم يكن همّ برنامج التشغيل العالمى، ولا هو فى الواقع همّ منظمة العمل الدولية حتى اليوم، تحويل القطاع غير المنظم إلى الاقتصاد الحديث، لأنهما أدركا أن لهذا التحويل شروطه الموضوعية التى لا تكفى لإيجادها القوانين والقرارات مهما حسنت نوايا من يتخذونها. شاغل البرنامج، والمنظمة حتى اليوم، هو رفع مستوى طرائق الإنتاج والإنتاجية بما يسمح برفع مستويات الدخول وتحسين شروط العمل وظروفه فى منشآت القطاع، وباعتبار أن هذا التحسن سوف يؤدى إلى انتقال منشآت القطاع غير المنظم تدريجيا إلى الاقتصاد الحديث لتستفيد من المزايا المتوافرة لمنشآته من سياسات حكومية وتسهيلات مصرفية وعلاقات خارجية ونفوذ سياسى.
استمرّت فى منظمة العمل الدولية أنشطة تحليل مسألة التشغيل ومساندة رسم سياساته وهى تأثرت بشكل مؤكد، بما خطّه برنامج التشغيل العالمى وبما خلّفه، ولكن البرنامج تلاشى مع التقدم فى الثمانينيات من القرن العشرين ومع الدخول فى التسعينيات. أسباب التلاشى عديدة، ولكن يذكر أن من أهمها كان التخلى عن هدف إقامة نظام اقتصادى عالمى جديد، والدخول فى عصر التعديل الهيكلى، وتوافق واشنطن، والسياسات الاقتصادية النيوليبرالية تساندها القوة السياسية لكل من الولايات المتحدة والتحالفات السياسية الأقوى فى البلدان المصنعة والنامية معا. لم يكن ممكنًا لبرنامج التشغيل العالمى، وهو على النقيض من السياسات النيوليبرالية، أن يستمر فى السعى إلى إقامة النظام الاقتصادى العالمى الجديد.
***
عودة إلى عباس عمّار، يحق للمصريين والعرب أن يفخروا به هو الذ ى خدم وطنه، والعرب، والتعاون الدولى. برنامج التشغيل العالمى كان التتويج الذى جعل أصداء اسمه تتردد بعد 45 عاما من وفاته فى أحد فنادق الخرطوم، ولكن خدمته للتعاون الدولى بدأت فى نهاية الأربعينيات فى الأمم المتحدة؛ حيث عمل فى قسم الالتماسات فى إدارة مجلس الوصاية، واستمرت بعد ذلك فى اليونسكو؛ حيث شغل منصب مدير المركز الرئيسى للتعليم فى الدول العربية، قبل أن يعمل عند تركه الوزارة ومنذ سنة 1954 كمدير عام مساعد لمنظمة العمل الدولية ثم كنائب لمديرها العام فى سنة 1964 وحتى استقالته فى سنة 1974، قبل شهور قليلة من وفاته.
سلام على عباس عمّار وعلى كل من أثرى التعاون الدولى، مصريين وغيرهم من العرب، وتطلع إلى نشأة برنامج تشغيل عالمى جديد تمسّ حاجة العالمين النامى والمتقدم إليه، برنامج يأخذ فى اعتباره ظروف عالم اليوم وتوزيع القوة السياسية فيه.