شرطة لشعب مصر
أهداف سويف
آخر تحديث:
الجمعة 15 يوليه 2011 - 9:56 ص
بتوقيت القاهرة
لا نستطيع أن نقول، بعد، إن ثورتنا الـ«غارزة» طلعت من الرمل، وعادت تجرى على طرق أسفلتية سريعة. لكننا نقول إن جميعنا يعمل الآن، وبهمة، لإزاحة الرمال، وزنق الحجارة وألواح الخشب تحت العجلات، استعدادا لتدوير الموتور والدفع.
وفاة شهيدنا، محمود خالد قطب، بعد ما يزيد على خمسة أشهر من المعاناة، فجرت من جديد غضبا أنزل الناس إلى الشوارع والميادين، وجمَّعهم حول أسر الشهداء والمصابين، ووحد الهدف حول «القصاص»، أى المحاكمات، ثم إجراءات التعامل مع المؤسسة الأمنية.
وتزامن هذا مع اكتمال مبادرة «شرطة لشعب مصر»، التى نشرت عنها هذه الجريدة تقريرا كاملا فى ٧/١٣، وأقيمت حولها «تويت ندوة» فى التحرير مساء نفس اليوم (تجد المعلومات حولها على موقع «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية» eipr.org). وهذه المبادرة، وما أحاط بها من ظروف، مثال رائع للأداء المبدع، الذى فجرته فينا ثورة ٢٥ يناير. فقد بدأت كاستجابة لحادث بلطجة من الشرطة تعرض له الدكتور عمرو الشلقانى، تشكلت حوله مجموعة صغيرة من مواطنى مصر، فيها الحقوقيون والإداريون وعناصر من الشرطة (من «ضباط لكن شرفاء»)، وبعد بحث مستفيض أصدروا مبادرتهم التى ترسم بالتفصيل الدقيق برنامجا لتفكيك المؤسسة الأمنية الخربة التى نعانى منها، واستبدالها بمؤسسة تستحق لقب «شرطة لشعب مصر». أكرر: هذه مجموعة من المواطنين، شكلت نفسها، دون تكليف من أحد، فبحثت وفكرت وأبدعت حلولا واقعية، وعملية، وثورية، طرحتها فى الإعلام، وفى الميدان. هذه روح ميدان التحرير، التى رأيناها من ٢٨ يناير إلى ١١ فبراير، التى نستعيدها الآن: الكل يبحث عن دور لخدمة الثورة وخدمة الناس، يجده فيجيده، بل يبدع فيه، فيزرع نبتة جديدة فى بستان حلمنا الجماعى الكبير.
واحتضن برنامج «بلدنا بالمصرى» وجريدة «الشروق» هذه المبادرة، فنُشِرت تفاصيلها، ثم اجتمع على مناقشتها الناس فى الميدان، بدءا بشباب «تويتر» ثم انضم إليهم جمهور كبير. الكل يتحدث، الكل يسمع، يطرح المشكلات ويطرح لها حلولا. مثلا: من آن لآخر يقبض الثوار فى ميدان التحرير على بلطجية. ماذا نعمل بهم؟ الكل يعرف أن الداخلية هى التى بعثت بهم إلينا أصلا، فمن غير المعقول أن نسلمهم إلى قسم الشرطة. كما أننا لا نستطيع أن نسلمهم إلى الشرطة العسكرية، حيث إننا نرفض مبدأ التعامل العسكرى مع المدنيين. فما العمل؟ اقترح أحد الضباط («لكن شرفاء») أن ننشئ، فى الميدان، قسم شرطة نموذجيا، يعبر عما نراه العلاقة الصحية بين الشرطة والشعب. حل مبدع وبنَّاء. لنرى ماذا يسفر عنه.
تزامن هذا أيضا مع إعلان حركة التنقلات بالداخلية، فاستطاع الضباط («لكن شرفاء») فى الندوة أن يشرحوا لنا فى الحال معنى هذه التنقلات، وكيف أنها فى حقيقتها تعتبر مكافآت لمن أحيلوا إلى التقاعد وليست عقابا، حيث إنهم يحصلون على مستحقاتهم ومكافآت «الخدمة» كاملة، ولهم حق التسجيل فى نقابة المحامين وممارسة مهنة المحاماة!
واضح أن الداخلية أصبحت وعن جدارة تحتل المركز الأول فى مستهدفات الشعب المصرى. الكل يدرك أن المطلوب لم يعد الإصلاح أو حتى التطهير. المطلوب والضرورى هو التفكيك، الحل الكامل للمؤسسة الأمنية فى مصر وإنشاء مؤسسة أمنية جديدة تخدم مصالح الشعب والوطن وليس مصالح النظام. فقد تحولت المؤسسة الأمنية فى مصر بكاملها (فيما عدا القلائل الشرفاء) إلى بلطجية للنظام.
هناك بلطجية بالنجوم والنسر، وبلطجية بالتى شيرت والشبشب؛ والكل يتحد على ترويع الناس لمصلحة النظام. وكلما ازداد النظام فجرا وفسادا اضطرت ذراعه الأمنية أن تزداد فجرا وقسوة. من أكثر ما هالنى من القصص التى سمعتها القصة الآتية:
الطلبة، فى بداية التحاقهم بكلية الشرطة، يعيشون حالة شبه معسكرة لمدة ٦ أشهر. ثم يُسمح لهم بالزيارة. القصة أن الطالب، ولنسمه «أحمد»، استقبل أهله فى أول زيارة لهم، فجاءه أبوه وأمه وعمه، وغرفة الزيارة بها ٣ مقاعد فقط. دخل ضابط كبير فوجد «أحمد» واقفا وأمه وأبوه وعمه جالسين، فبهدله: «ماشوفكشى أبدا واقف وحد تانى قاعد! انت ضابط شرطة! ما تقفش لحد ولو كان أبوك!».
قصة صغيرة، محدودة. لكنها تدل بوضوح على عملية تشويه الإنسانية فى الإنسان التى كان من الضرورى أن تتم حتى تقوم المؤسسة الأمنية بواجبها فى حماية النظام على حساب الشعب. التشويه الذى أوصلنا، من ناحية، إلى أن نصبح المنتجع العالمى المفضل لـ«سياحة التعذيب» التى بمقتضاها كانت الإدارة الأمريكية ترسل لمصر الشباب المشتبه فى انتمائهم لـ«القاعدة» ليتم تعذيبهم هذه العلاقة التى كان مهندسها الأساسى السيد عمر سليمان، نائب الرئيس المخلوع، والمرشح المحتمل لرئاسة جمهوريتنا الجديدة ومن ناحية أخرى، لأن نصبح بلدا يعَذَّب الناس فيه عادى كده فى أقسام البوليس من باب «مجاملة» الأصدقاء والحبايب.
وزارة الداخلية والمؤسسة الأمنية كلها ليست عدونا الكبير. عدونا الكبير نظام اقتصادى سياسى قطعنا رأسه لكنه مازال يحاول أن يستعيد ويجدد نفسه ويعود إلينا. لكن المؤسسة الأمنية وبلطجيتها هى سلاحه المباشر ضدنا. إن كانت ثورتنا ستطلع من غَرْزَتِها وتعود إلى الطريق فهى لن تتمكن من المضى فيه بدون أن ننزع من عدونا هذا السلاح. لذا كان تفكيك هذه المؤسسة الأمنية، واستبدالها تماما، مطلبا أساسيا لثورتنا اليوم.