هل انتهت حرب التحرير الجزائرية؟

محمد السماك
محمد السماك

آخر تحديث: الأحد 15 يوليه 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

بعد مرور نصف قرن على استقلال الجزائر عن فرنسا لا تزال العقدة الفرنسية الجزائرية من دون حل.

 

احتلت فرنسا الجزائر لمدة 134 عاما. وكان احتلالا استيطانيا، بخلاف الاحتلال الفرنسى للمغرب ولتونس الذى كان احتلالا استعماريا أو انتدابيا. كانت فرنسا تعتبر الجزائر جزءا من الأرض الفرنسية، لكنها لم تعتبر أبدا الجزائريين جزءا من الشعب الفرنسى. ولذلك كان الاحتلال الاستيطانى يرتكب جرائم إبادة ذهب ضحيتها حسب الإحصاءات الرسمية أكثر من مليون ونصف المليون جزائرى. وفى اليوم الذى كانت فرنسا فى عام 1945 تحتفل بالانتصار على النازية والتحرر من الاحتلال الألمانى، قامت فى الجزائر مظاهرة شعبية تطالب بالاستقلال، قمعتها السلطات العسكرية الفرنسية مما أدى إلى مقتل 45 ألف جزائرى.

 

●●●

 

لقد تمكنت فرنسا من حل عقدتها مع ألمانيا رغم سلسلة الحروب التى نشبت بينهما خاصة الحربين العالميتين الأولى والثانية. وأصبح التفاهم الألمانى ــ الفرنسى اليوم يشكل القاعدة والأساس للاتحاد الأوروبى. فلا تفاهما أوروبيا من دون  تفاهم ألمانى فرنسى سواء كان الأمر يتعلق بالاقتصاد أو بالسياسة أو حتى بالحرب.

 

لكن فرنسا لم تتمكن من حل عقدتها مع الجزائر بعد نصف قرن على الانسحاب منها. من هنا يفرض السؤال التالى نفسه: كيف عالجت فرنسا التعقيدات النفسية والوطنية المتعلقة بعلاقتها مع ألمانيا الدولة التى احتلتها وانتهكت سيادتها وقتلت مئات الآلالف من أبنائها؟ وكيف عجزت عن معالجة التعقيدات المماثلة المتعلقة بعلاقتها مع الجزائر، الدولة التى كانت ضحية لاحتلالها ولانتهاك سيادتها والتى قتلت من أبنائها مليونا ونصف المليون من البشر.. هل أن الحل مع المعتدى أسهل من الحل مع الضحية؟.

 

بالنسبة لفرنسا فان ألمانيا كانت المعتدى فى الحرب العالمية الثانية. ولا تنكر فرنسا اليوم أنها  كانت هى المعتدى على الجزائر باحتلالها مدة قرن ونصف تقريبا. فكيف تجاوزت فرنسا تعقيدات إقامة علاقة سليمة مع المعتدى (ألمانيا)، وتعثرت حتى الآن فى اقامة علاقة سليمة أخرى مع المعتدى عليه (الجزائر)؟

 

قاتل الألمان الفرنسيين بضراوة، واحتلوا باريس عاصمة دولتهم لسنوات وأقاموا فيها حكومة موالية لهم (حكومة فيشى). وقاتل الجزائريون مع الفرنسيين ضد الألمان فى الحربين العالميتين الأولى والثانية. بل إنهم ذهبوا للقتال معهم حتى إلى فيتنام، الهند الصينية كما كانت تدعى فى الخمسينيات من القرن الماضى.

 

حتى المستعمرات الفرنسية فى أفريقيا قامت على سواعد الجنود الجزائريين فى الجيوش الفرنسية. مع ذلك فإن الألمانى اليوم مرحب به فى فرنسا، فيما ينظر إلى الجزائرى على أنه انسان غير مرغوب فيه. أما اذا كان هذا الجزائرى حاملا للجنسية الفرنسية، فإنه يعامل كمواطن من الدرجة الثانية!

 

●●●

 

لقد اعتذرت ألمانيا لفرنسا وقدمت لها التعويضات بعد انتهاء الحرب. لكن فرنسا ترفض حتى اليوم الاعتذار للجزائر، كما التعويض عليها. فكيف تطلب فرنسا الاعتذار من المعتدى عليها وهو حق لها، ولا تقدم هى الاعتذار لمن مارست عليه العدوان، وهو واجب عليها؟

 

ثم إن الاحتلال الألمانى لفرنسا دام سنوات قليلة ومعدودة، اقتصر خلالها دور قوات الاحتلال على التصدى لعناصر المقاومة الوطنية الفرنسية، أما دور قوات الاحتلال الفرنسى للجزائر الذى استمر 134 عاما فاتسم بارتكاب جرائم ابادة ضد الشعب الجزائرى. هل لأن ألمانيا اليوم قوة اقتصادية وسياسية تمثل القلب من أوروبا فيما الجزائر لا تزال رغم ثروتها الضخمة من النفط والغاز تصنف على أنها واحدة من دول العالم الثالث؟

 

وهل لأن ألمانيا دولة مستوردة لليد العاملة حتى من فرنسا.. بينما الجزائر دولة مصدرة لليد العامة حتى إلى فرنسا؟

 

من هنا فإذا كان طبيعيا أن تعتذر ألمانيا لفرنسا.. فان من الطبيعى أكثر أن تذهب فرنسا إلى ما هو أكثر من الاعتذار للجزائر.. إلى طلب الغفران. لكن ما حدث بعد مرور 50 عاما وطوال هذه المدة، كان يوحى بالعكس تماما.

 

●●●

 

قبل انتصار الثورة الاستقلالية الجزائرية، زار بيروت وفد من منظمة التحرير فى اطار جولة عربية لدعم الثورة. وأذكر يومها أن رئيس الوفد المرحوم فرحات عباس ألقى كلمة أمام جمع من السياسيين اللبنانيين المؤيدين للجزائر كان يتحدث أثناءها بالفرنسية لأنه لم يكن يعرف العربية. وقد اعتذر عن ذلك لأن الاحتلال الفرنسى كان يعمل على الغاء الهوية الجزائرية لغة وثقافة ودينا. يومها قال فى كلمته: «إن نضالنا طويل. الأمر الذى يتطلب منا المزيد من التضحيات.. ومنكم المزيد من التأييد.. أننا لن نمل من تقديم التضحيات ونرجو ألا تملوا من تأييدنا».

 

ومن مستلزمات تأييد الثورة الجزائرية الوقوف إلى جانب الجزائر اليوم فى انتزاع اعتذار من فرنسا على ما ارتكبته من جرائم ضد الإنسانية. وهى جرائم لا يتجاوزها الزمن ــ مهما طال ــ إلى أن تقدم الدولة اعتذارا يطوى صفحتها على نحو ما فعلته اليابان مع الصين وكوريا.. وعلى نحو ما فعلته ألمانيا مع اليهود ومع الشعوب الأوروبية الأخرى، وما فعلته الولايات المتحدة مع مواطنيها الذين يتحدرون من أصول يابانية.

 

توجد فى منطقة الطريق الجديدة فى بيروت مقبرتان متجاورتان للجنود الفرنسيين أقيمتا خلال الانتداب الفرنسى على لبنان. واحدة للمسيحيين والثانية للمسلمين.

 

ومعظم قبور الجنود المسلمين هى للجزائريين والمغاربة. وتحافظ السفارة الفرنسية فى بيروت على هاتين المقبرتين وترعاهما حتى اليوم.. إلا أن الجزائريين الأحياء من أبناء وأحفاد هؤلاء الضحايا يتطلعون إلى حد أدنى من رعاية السلطات الفرنسية.. ولو بكلمة اعتذارية!

 

●●●

 

لقد اعترف مفكرون وعلماء وسياسيون فرنسيون كبار بجرائم الاحتلال الفرنسى للجزائر. وكان من أبرزهم الرئيس فرانسوا أولاند، والذى أعلن فى عام 2006 «أن فرنسا خسرت روحها فى الحرب الجزائرية وعلينا أن نقدم الاعتذار إلى الشعب الجزائرى». ولكن الدولة الفرنسية ما زالت حتى الآن تتنكر لهذا الماضى السيئ، وإن كانت لا تستطيع أن تنكره. وكانت فرنسا فى عام 1999 قد اعترفت رسميا بأن الحرب الجزائرية كانت أسوأ حرب لها منذ الحرب العالمية الثانية. ولكن هذا الاعتراف وحده لم يسمن ولم يغنِ من جوع الحقيقة، والحقيقة هى أن فرنسا ارتكبت مجازر فى الجزائر. وإن للجزائر حقا مؤجلا على فرنسا. وقد تأخرت فى الاعتراف بهذا الحق وفى تقديمه. ولعل وصول الرئيس أولاند إلى الرئاسة يفتح الباب أمام تصفية هذه الحسابات القديمة. وذلك على أمل أن يرى زعيم الحزب الاشتراكى الفرنسى اليوم من مقعد الرئاسة ما كان يراه من مقعد المعارضة.

 

صحيح أن الجزائر تمكنت من انتزاع حريتها من الاحتلال الفرنسى بما قدمته من تضحيات إنسانية كبيرة، ولكن فرنسا لم تتمكن بعد من تحرير ذاتها من وصمة الاحتلال الاستيطانى. أن كلمة اعتذار تشكل عنوانا لمرحلة جديدة تؤسس لعلاقات انسانية سليمة بين الجزائر وفرنسا.. وتاليا بين ضفتى المتوسط الشمالية والجنوبية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved