على طاولة الصراع الرأسمالى!
محمد يوسف
آخر تحديث:
الأحد 15 يوليه 2018 - 9:15 م
بتوقيت القاهرة
لو أراد أحد مؤرخى علم الاقتصاد أن يصف الحقبة الحالية للرأسمالية على صعيدها الدولى، فلن يجد أصدق من تعبير «الرأسمالية المتصارعة». صحيح أن الرأسمالية الدولية على امتداد تاريخها، وهى تشهد صراعات متنوعة بين مراكزها الرئيسية، بداية من مرحلتها التنافسية الأوروبية، ومرورا بمرحلتها الاحتكارية الأمريكية.. وصحيح كذلك أن احتدام هذا الصراع هو الذى رسم حدود هذه المنظومة بين مراكزها فى البلدان المتقدمة وأطرافها فى البلدان النامية، إلا أنه من غير الصحيح اعتبار صراعات الحقبة الحالية للرأسمالية متشابهة، من حيث النوع والأثر والعمق، مع كل الصراعات السابقة. فالجسد الرأسمالى المنهك تاريخيا بالصراع، مُهدد الآن بالوفاة!
***
حصاد الهشيم هو الوصف الدقيق لما انتهت إليه القمة الأخيرة للدول الصناعية السبع الكبرى. فبعدما كانت نتائج هذه القمة تمثل بوصلة التوجيه الرأسمالى، وتعتبر رأس الحربة فى تحركات الرأسمالية على صعيدها الدولى، إذ بالأمور تنقلب رأسا على عقب، فى ظل الوضع الاقتصادى المأزوم للدول السبع الكبار، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، ويُخشى من إمكانية إصدار بيان ختامى للقمة، ناهيك عن صياغة خطة تحرك رأسمالية مشتركة. فلقد دبت الخلافات والانقسامات فى أوصال اقتصاد السبع الكبار، وتباينت المصالح فيما بينهم، وللدرجة التى باتت هذه المجموعة على وشك الدخول فيما بينها فى حرب تجارية مفتوحة، سلاحها الرئيسى هو السياسات الحمائية، وبما يصيب جهود منظمة التجارة العالمية فى تحرير التجارة العالمية فى مقتل!
على أن التصدع المتنامى فى جدار التكامل القائم بين السبع الكبار تفصح عنه خطوات اقتصادية هامة، ليس أقلها الحمائية والحمائية المضادة من الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الست (اليابان، كندا، ألمانيا، بريطانيا، إيطاليا، فرنسا). فلجوء الولايات المتحدة لفرض ضرائب جمركية بنسبة 25% على واردات الصلب و10 % على واردات الألومنيوم الأوروبية والكندية والمكسيكية، وقيام الدول المُضارة بتلك القيود بمعاملة الصادرات الأمريكية بالمثل، ليس هو الأداة الوحيدة للصراع؛ فالتقلبات الحادة فى أسواق المال الأوروبية استجابة لمشكلات قطاع التصدير الأوروبى، ونتيجة مباشرة لتعقيد دخول الصناعات المعدنية الأوروبية إلى السوق الأمريكية، تمثل أداة إضافية من أدوات الصراع، وتمثل مظهرا رديئا من مظاهر الحرب الاقتصادية بين «الإخوة الأعداء»!
ومهما يكن من أمر أدوات الصراع، فالقول بأنه ينحصر فى السياسات الحمائية وفى أزمات سوق المال، هو قول يشوبه القصور، ويفتقد لسلامة المنطق التحليلى الرصين. ذلك لأن الحماية التجارية المعلنة من الأطراف السبعة المتصارعة، والتقلبات فى أسواقها المالية، ما هى إلا المظهر الخارجى للأزمة، أو قل القشرة الخارجية لها. أما جوهر ولب هذه الأزمة فيكمن بعيدا عن هذه النزاعات المعتادة، مهما بلغت حدتها. ففى مشكلات قطاع الصناعة والتكنولوجيا، وفى أزمة الديون الخارجية، وفى العجز المالى الداخلى، وفى التهديد الصينى وتمرد بعض بلدان الجنوب، يكمن جوهر الأزمة. والنقاط التالية تُفصّل هذا المُجمل.
1. فى السابق، وعندما كان يحدث التطور التكنولوجى بوتيرة متسارعة، وبقفزات اقتصادية متتالية، كان يتسبب مباشرة فى تضاعف الأرباح والتراكم والنمو. أمَا وأن هذه الوتيرة قد تراخت هذه الأيام، وبات النمو الاقتصادى الدولى يسير بسرعة السلحفاة، وأصبحت قدرة الدول الصناعية على خلق الوظائف محدودة، فإن الصراع كان لابد له أن يستعر. ولكى نوضح هذه المسلمة التنموية، فلو افتراضنا جدلا أن التطور التكنولوجى فى قطاع التصنيع فى العقود التالية للحرب العالمية الثانية كان يولّد نموا عالميا يقترب من حاجز 10% سنويا، فإن المراكز الرأسمالية كانت تُؤمّن لنفسها نصيب الأسد من هذا النمو الكبير. لكنه مع تراجع قدرات التطور التكنولوجى على إحداث طفرات صناعية تخلق وظائف جديدة، وتنتج سلعا جديدة، وتتيح طلبا جديدا، وتفتح أسواقا جديدة، فإن نمو اعالميا يلامس 3.5% سنويا يجب أن ينشب حوله الصراع بين السبع الكبار، فالكعكة الكبيرة أصبحت صغيرة، وهذا عين ما يحدث فى أيامنا هذه.
2. بنمو المديونية الخارجية للبلدان الرأسمالية الرئيسية، فإن جزءا من كعكة النمو المتناقصة ستلتهمه فوائد الديون، وسينساب خارج الحدود الاقتصادية لتلك البلدان. ولن يُغنى عن ذلك انخفاض معدل تلك الفائدة (لاحظ أن معدل الفائدة السنوى على السندات الأمريكية يدور حول 1% تقريبا)، طالما كان معدل نمو أصل المديونية يفوق معدل نمو التجارة العالمية. وبالتالى، كلما زادت المديونية وأعباؤها، وكلما تركز هيكل الدائنين فى عدد محدود من الدول، كلما وُجِدت أسباب منطقية للصراع بين الدائن والمدين. نجد تأييدا على ذلك فى هيكل المديونية الأمريكية؛ فبالإضافة لأنها باتت أكبر مدين فى العالم، فإن الدائنين الرئيسين لها يُعدّون على أصابع اليد الواحدة، الإبهام فيها هو اليابان. أليس من المنطقى بعد ذلك أن توجد مبررات قوية للصراع بين أمريكا واليابان؟!
3. وقد يستغرب البعض من اعتبار العجز المالى الداخلى للدول السبع الكبار مبررا للتصارع الخارجى بينهما، لكنّ توضيحا بسيطا للعلاقة بين هذا العجز وذلك الصراع، كفيل بإزالة هذا الاستغراب. فمن البديهى أن العجز المالى الداخلى يقيد قدرة الحكومة على التوسع الاستثمارى، وهو ما يقلل بالضرورة من قدرة السوق الداخلية على خلق وظائف جديدة ومنتجة. وللتغلب على هذا القيد الداخلى، تلجأ الحكومات ــ بشتى الوسائل ــ لدعم صناعاتها للتوسع فى الأسواق الخارجية، كى تتمكن من خلق وظائف جديدة. وعندما تتشابه الدول فى حالة العجز، تتصارع فيما بينها على الأسواق الخارجية.
4. قلنا فى الفقرة السابقة أن التسابق على تصريف منتجات مصانع الدول السبعة فى الأسواق الخارجية يعتبر سببا جوهريا للصراع القائم بينهم. لكن ماذا لو أعلن جزء من هذه الأسواق الخارجية التمرد والمقاومة أمام مصانع الدول السبع؟! فى الواقع، فإن التهديد الصناعى والتكنولوجى الآتى من الصين، والتمرد الصناعى والتجارى المُعلن من جزء معتبر من بلدان العالم الثالث (كوريا الجنوبية وبلدان اتفاقية «بريكس» خير مثال)، ومحاولتهم المستميتة لتعديل قواعد اللعبة لصالحهم، يشكل، فى رأيى، سببا جوهريا إضافيا للصراع القائم بين السبع الكبار. فهذا التهديد الصينى، وهذا التمرد من دول نامية رئيسية، أصبح يُضيّق الخناق على اقتصادات كل دولة من الدول الصناعية الكبرى، وأضحى يضيّع عليها مزيدا من الفرص للإنتاج والتصدير والنمو، وبات يمثل تهديدا وجوديا لها. وبدلا من أن تتكامل فيما بينها لتواجه هذا المأزق التاريخى، إذ بها تتصارع وتتناحر أمام هذا العدو القادم مسرعا من الخلف. وفى ذلك نفهم لماذا تظل الصين الصداع المزمن للولايات المتحدة واليابان، بدرجة تفوق غيرهما من البلدان الرأسمالية السبع.
****
يبدوا لنا الآن أن أزمة النظام الرأسمالى العالمى، ممثلا فى أزمة كباره السبع، ليست مجرد أزمة عابرة، ولا مجرد صراع طارئ سرعان ما سينتهى. إذ إن الصراع المستعر بينهم الآن هو انعكاس لخلل جسيم فى آلية عمل المنظومة الرأسمالية على صعيدها المحلى والدولى. فالانخفاض التدريجى فى قدرة الاقتصادات الرأسمالية على الاستيعاب، وحاجتها المتنامية للأسواق الخارجية، خلق صراعا محموما فيما بينها على الأنصبة من تلك الأسواق، وخلق نوعا جديدا من «صراع الأسواق»، وهو الصراع على أسواقها البينية. وزاد ذلك من نزعة الحماية فيما بينها، واستدعى، فى ذات الوقت، تمردا متزايدا من البلدان النامية التى كانت فى السابق مجرد أسواق تصريف منتجات الكبار.
وعلى كل حال، فإذا كان ما سبق يمثل صراع الأنداد، وصراع القادمين الجدد من الخلف، فإننا هنا فى بلدان العالم الثالث الراكدة سنعانى من صراع غير عادل، وغير متكافئ. فأغلب بلدان هذا العالم لا تمتلك أدوات اقتصادية تعينها على المقاومة، فضلا عن المساومة. ولكل ذلك، فلا بديل أمام هذه البلدان، فرادى وجماعات، إلا الاعتماد على الذات. ولا طريق أمامها إلا الطريق الذى قطعته البلدان النامية التى استعدت جيدا لمعركتها مع السبع الكبار. فالمحاكاة التكنولوجية فى بناء القدرات الصناعية، والاستفادة من اتساع السوق المحلية فى المساومة على جذب أنواع متميزة من الاستثمار الأجنبى الصناعى، والاستفادة القصوى من الموارد البشرية والطبيعية والمالية المتاحة، هى علامات مميزة فى طريق النجاح والتقدم.
وفى ضوء هذه الحقائق والمسلّمات فى الخبرة الدولية، وفى إطار سعى الدول المتقدمة لمزيد من التقدم بشتى الوسائل المشروعة وغير المشروعة، فإن النظام الاقتصادى الدولى بقيادة هذه الدول المتصارعة، لن ينقذ الدول النامية من عثراتها، بل لن يساعدها حتى على إنقاذ نفسها. ولكل ذلك، يحق لنا أن نلح فى السؤال: ألم يأنِ لدولنا النامية أن تعى الدرس جيدا؟!