هل يمكن للجمال أن ينقذنا

نبيل الهادي
نبيل الهادي

آخر تحديث: الجمعة 16 أغسطس 2019 - 10:19 ص بتوقيت القاهرة

«الجمال سينقذ العالم» قالها دوستويفسكى وكتبها عنه أستاذى العزيز عبدالحليم إبراهيم متعه الله بالصحة وانتهى بالرد عليه أنه صحيح أن الجمال لم ينقذ البشرية من ويلات الحروب ولكنه ارتقى بالإنسان ومنحه ما يستطيع به تحمل قسوة الحياة وفى ذلك بالتأكيد ما يستحق، ولمدة سنوات لم أكن متأكدا مما قاله الاثنين وتحول إعجابى الأول إلى حيرة، وما زاد حيرتى ما كان يقوله صديقى العزيز المعمارى الإيطالى ريتزى ــ وهو الحائز على الجائزة الثالثة فى مسابقة تصميم المتحف المصرى الكبير وكنت دائما أرى أن تصميمه كان الأجدر بالاختيار والبناء لأنه كان الأكثر فهما لعمارة وعمران مصر وفلسفتها الجمالية وعلاقتها بالمكان وهناك كلام كثير ولكن فات وقته ــ كان يقول إن الجمال فى مصر قائم على فكرة الكمال وهذا بالطبع ما يمكن أن نراه فى الانتظام المذهل لعمارة الأهرام أو تأمل بعضا من التماثيل المصرية القديمة أو أغطية النواويس الجرانيتية ذات النقوش التى تضاهى فى دقتها وكمالها بل وقد تتفوق بما فيها من روح على أجهزة التقطيع بالليزر المتوافرة حاليا مع فارق زمنى بسيط لا يتعدى بضعة آلاف من السنين.
ساعدنى فى الخروج من الحيرة «أبو يعرب المرزوقى» الفيلسوف التونسى المعاصر بفهمه للجمال على أنه «احتجاج على الظلم والقبح وعدم الاكتمال». رأيت فى فهم المرزوقى عن الجمال ما هو يتماشى مع ما نعيش فيه مما تكاد أن تكون بحور للقبح والظلم أينما وليت. وربما تحمل بعض مفاهيم الجمال المعاصرة خاصة التى بلورتها بعض النخبة أو الطليعة فى الغرب إمكانية أخرى خاصة فى تأكيدها على تلاشى القواعد الكلاسيكية وتأكيدها على التجريب والاستكشاف.
السؤال عن ماهية الجمال وكيف نراه ونفهمه فى مصر الآن سؤال له علاقة وثيقة بحياتنا ومنتجاتنا المادية وغير المادية وتحتاج بحثا ونقاشا وقبل ذلك تأملا لأن تأمل الشىء بالنسبة «لكانط» هو ما يجعله موضوعا للجمال. ويتساءل المرء وهو يرى هذه الحملات من الدهان ذى اللونين العجيبين على بيوت المهمشين الذين شاء حظهم العاثر أن تقع فى مرأى من بعض الشوارع الرئيسية فى القاهرة أيهما أكثر ظلما لحواسنا قبل أم بعد؟ ما أراه رائعا فيما قاله المرزوقى أنه يحول الفهم الشائع المبسط عن الجمال من كونه حالة مرتبطة ببعض حواسنا إلى حالة مرتبطة بوضعنا الإنسانى وقبولنا أو رفضنا واحتجاجنا عليه. فكيف يمكن أن نرى هذين الشريطين الملونين المتكررين على تلك المبانى جميلا وهو لم يساعد هؤلاء الساكنين بداخله فى تحسين حياتهم والتى ولا شك تعانى من الكثير من النواقص.. هل لو أنفقت تلك الأموال فى مساعدة بعضهم على زراعة بعض ما يحتاج لأكله فى صندوق معلق فى شباكه. أو زراعة أشجار فى المناطق التى قد تسمح بذلك فى شوارعهم أو مساعدتهم فى تدوير بعض نفاياتهم فوق سطح منازلهم (البقايا الخضراء للطعام مثلا وتحويلها إلى تربة). هل يمكن لنتيجة مثل هذا العمل أن تكون أجمل وأكثر حقيقة. وقس على ذلك الكثير مما يمكن عمله. كيف ترى وجه إنسان عاطل وكيف يبتسم وجهه بعد أن يوفر له عمل أليس هذا هو الجمال؟ يتعلق الجمال كما أفهمه إذا بالمضمون والذى ما يلبث أن يتخذ شكلا.
ارتباط الجمال أساسا بالمضمون يسمح لنا بالتساؤل عن المبنى الذى قد يراد له مثلا أن يكون بيتا للزكاة وهل يراد له أن يكون مثلا مبنى عاما يفخم من مكان رئيسه أو شيخه لا أن يكون مبنى يتأمل فى ماهية الزكاة وكيف يمكن أن تكون أحد محركات التنمية المستدامة ويتم تدويرها بدلا من أن تلقى للمحتاجين على عجالة كل فترة زمنية ثم تختفى. وفى تحولها هذا ترغب أن تستقر فى مبنى أقرب للناس وأكثر تواضعا لا أكثر حجما وفخامة. لحظة ولكن أليست هذه مخاطرة بأن يتحول عملك واقتراحك إلى ما لا يرغبه أصحاب العمل ومموله وعندها تخسر عملك؟
ما قاله المرزوقى منذ نحو خمسة عشرة عاما يأبى أن يغادرنى سواء كنت أعمل على دراسة واحدة من المناطق التى ننشغل بدراسة كيفية تنميتها فى مدينة القصير أو برج رشيد أو ميت رهينة وسؤال الجمال لا يستطيع أن يتنحى جانبا فى جوار الأسئلة الأخرى حول تحديات التنمية إذ كيف يمكن أن تمكن عملية مستدامة للتنمية بدون أن تستهدف هذه العملية الجميع ولا تستبعد أحدا وكيف تمكن للناس أن يحصلوا على الحد المقبول الذى يحفظ لهم إنسانيتهم ويدرأ عنهم ظلما متعددا ومركبا. هل يمكن أن نقوم بذلك دون مخاطرة وأن نقوم بذلك ونحن نتبع منشور التعليمات الآمن الموجود فى عدة كتب أو مراجع أو جهات ونكتفى بأننا قمنا بما نقدر عليه فى ظل الظروف المركبة التى نمر بها.. لست متأكدا من الإجابة كما أننى لست متأكدا من محدودية القدرات والطاقات التى نملكها أو المتاحة لنا.
ولكن ألا يستحق استهداف واقع أكثر عدلا واحتراما للإنسان ويحتج على الظلم والقبح المخاطرة بتجريب ما لا نعرف دقة نتائجه وأن نصبر على التحديات المتعددة والمتنوعة التى لا تطرق أبوابنا فقط ولكنها تشكل محيطنا وتقض مضاجعنا وإن تطلب سنوات من العمل الجاد وبناء المعارف والبحث عن الجدة والابتكار ونقاش مع الآخرين لأننا لا نخاطر بحياة الإنسان ولكن من أجلها.
أستاذ العمارة بجامعة القاهرة

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved