لمواجهة تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، انتهج الناتو استراتيجية تهدف إلى تعزيز التعاون والدفاع المشترك ضد أى تهديدات محتملة، وهذا ما تجلى فى المناورات البحرية التى تُجرى فى بحر البلطيق بقيادة ألمانيا. فى ضوء ذلك، نشر المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية مقالا للكاتبة آية عبدالعزيز، أوضحت فيه أن الهدف من هذه المناورات هو إظهار القوة العسكرية والجاهزية القتالية أمام العدو دون الدخول فى مواجهة مباشرة... نعرض من المقال ما يلى.اعتمدت استجابة حلف شمال الأطلسى (الناتو) لمواجهة تداعيات الحرب الروسية ــ الأوكرانية، على انتهاج استراتيجية مُتعددة المسارات، تمزج ما بين الردع والدفاع على المدى الطويل، لأى تهديدات مُحتملة، قد تتعرض لها الحلفاء من قبل روسيا، وذلك من خلال إعادة هيكلة خططه الدفاعية الإقليمية لأول مرة، منذ انتهاء الحرب الباردة، بالإضافة إلى تطوير المفهوم الاستراتيجى للحلف؛ بما يضمن تحقيق الدفاع الجماعى، وتوضيح التحديات، والتهديدات التى تواجهها الدول الأعضاء؛ حيث اعتبر المفهوم الجديد لعام 2022، روسيا بأنها «أكبر وأهم تهديد مباشر لأمن الحلفاء، وعلى السلام والاستقرار فى المنطقة الأوروبية الأطلسية». هذا بجانب العمل على ضمان استعداد وجاهزية قوات الحلفاء، للتصدى لأى تهديد قائم، أو مُحتمل، عبر تعزيز القابلية للتشغيل البينى، لتحسين القدرة على الدفاع المشترك، وهو ما تجلى فى مناورات البحرية، التى تُعرف باسم «Northern Coasts»، التى تُجرى خلال الفترة من 9 إلى 23 سبتمبر 2023، فى بحر البلطيق، بقيادة ألمانيا.
وللمرة الأولى ستقوم هيئة أركان القوات البحرية الألمانية بـ «التخطيط وقيادة مناوراتٍ بهذا الحجم»، كما أن هدف المناورات هذا العام تم إعادة النظر فيه، لكى يتناسب مع البيئة الأمنية المتغيرة بشكل متلاحق؛ حيث ركز على الدفاع الجماعى، عبر محاكاة رد فعل الحلف على أى هجوم، فى تحول نوعى عن السيناريوهات السابقة، التى كانت تحاكيها مناورات «الساحل الشمالى»، التى كانت قائمة بالأساس على إدارة الأزمات، والحد من اندلاع الصراعات، بجانب مكافحة الإرهاب. الأمر الذى أثار عددًا من التساؤلات، بشأن هذه المناورات والدول المشاركة فيها، ودلالات تنفيذها فى منطقة بحر البلطيق.
• • •
تقوم قوات الحلف بإجراء مناورات بحرية جماعية سنوية قبالة سواحل لاتفيا وإستونيا، باعتبارهم الدولتين المضيفتين للمناورات هذا العام؛ حيث يتم تحديد نطاق المناطق البحرية الخاصة بالمناورات بشكل أساسى، من خلال الدول المضيفة، وفى محاولة لتفادى استفزاز روسيا، لن تتم المناورات أيضًا بالقرب من كالينينجراد الواقعة بين بولندا وليتوانيا. وذلك بمشاركة باقى جميع دول الحلف الواقعة فى منطقة بحر البلطيق، بجانب السويد ــ التى من المنتظر أن تحصل على عضوية الحلف بشكل رسمى، بعد تصديق تركيا، والمجر، على بروتوكول انضمامها ــ بالإضافة إلى فرنسا، وبلجيكا، وكندا، وهولندا، والولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا، ليصل إجمالى الدول المشاركة نحو 14 دولة.
تقود مناورات «الساحل الشمالى» لعام 2023، ألمانيا، فوفقًا لنائب قائد البحرية الألمانية، الأدميرال جان كريستيان كاك، «حيث ستكون هذه أول مناورة بهذا الحجم تقودها البحرية الألمانية، وهى أكبر بحرية فى بحر البلطيق، وذلك من مقرها البحرى الجديد فى روستوك، الذى وصل إلى الاستعداد التشغيلى». إذ تسعى برلين للمشاركة بفعالية لتعزيز قدرات الحلف الدفاعية فى المنطقة، من خلال جعل هذا المقر بمثابة مركز إقليمى لقيادة عمليات الناتو فى بحر البلطيق، فى حالة اندلاع أى هجوم.
ومن الجدير بالذكر أنّ مناورات «الساحل الشمالى» منذ إطلاقها فى عام 2007، بمبادرة من البحرية الألمانية، يتناوب على قيادتها كل من الدنمارك، والسويد، وفنلندا، بجانب ألمانيا، كانت تستهدف التعاون بين دول الحلف والاتحاد الأوروبى فى منطقة البلطيق، فى مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة، بالتزامن مع توسع الناتو شرقًا، خاصّة مع انضمام دول البلطيق فى عام 2004، وكانت تستند فى أهدافها على الاستجابة للأزمات، ومكافحة الإرهاب، ولكن بدا التحول التدريجى فى مهام عملياتها، منذ عام 2014، مرتكزًا بالأساس على تحسين آليات الدفاع، على المستوى الوطنى والجماعى.
• • •
تعكس هذه المناورات مدى التحول فى استراتيجية الحلف تجاه منطقة بحر البلطيق، والرغبة فى إظهار مدى قدرته على تحقيق الدفاع الجماعى، خاصّة مع استمرار الحرب لأكثر من عام ونصف بدون حسم من قبل طرفى الصراع. لذلك تحمل هذه المناورات جُملةً من الرسائل، التى تتجلى على النحو التالى:
القابلية للدفاع المشترك: تستهدف هذه المناورات تعزيز قدرة الدول الحلفاء على التعاون والتنسيق بين القوات البحرية، والبرية، والجوية، فى منطقة بحر البلطيق، لمجابهة أى هجوم مُحتمل على دول الجناح الشمالى للحلف، حيث أدت الحرب إلى تغيير البيئة الأمنية فى أوروبا بشكل عام، وفى منطقة بحر البلطيق تحديدًا، خاصّة بعد أن أصبحت روسيا أكبر تهديد للأمن الأوروبى ــ الأطلسى، وهو ما تم تأكيده فى المفهوم الاستراتيجى للحلف لعام 2022، إبان قمة الحلف التى عقدت فى مدريد نهاية شهر يونيو 2022.
إظهار القوة: تُعد هذه المناورات ترجمة عملية لموقف الحلفاء الحاسم تجاه روسيا، ومحاولة منهم لإرسال رسالة مفادها: بأنّ منطقة بحر البلطيق التى تعتبر الفناء الخلفى لموسكو، أضحت بعد انضمام فنلندا للحلف، والسويد قريبًا، بحيرة يسيطر عليها الناتو، الأمر الذى سيساهم فى إحداث تحول استراتيجى، فى توازنات القوة فى المنطقة لصالح الحلف.
الردع الاستباقى: تأتى هذه المناورات فى إطار توجه الحلف نحو الاعتماد على القدرات العسكرية الثقيلة، عالية الجاهزية، لتحسين قدراته على الرد السريع على التهديدات الهجينة، فضلًا عن رغبته فى تأمين مصالح الحلفاء فى المنطقة، ذات الأهمية الاستراتيجية على المدى الطويل، وليس مجرد استجابة مؤقتة لاحتواء تبعات الحرب. فبعد يومين من بدء هذه المناورات، أعلن الناتو أنه سيجرى خلال شهرى فبراير ومارس من العام المقبل، أكبر مناورة مشتركة حية منذ الحرب الباردة، فى دول البلطيق، وألمانيا، وبولندا، لمجابهة أى تهديد روسى ضد الدول الأعضاء، بمشاركة ما يقرب من 40 ألف جندى. كما أنها تعتبر جزءًا من استراتيجية تدريب جديدة ترتكز على قيام الناتو بإجراء مناورتين كبيرتين كل عام، بدلًا من مناورة واحدة، وذلك وفقًا لصحيفة «فايننشال تايمز».
التعامل بالمثل: بالرغم من أنّ مناورات الساحل الشمالى تُجرى سنويًا، إلا أن نسخة هذا العام جاءت كرد غير مباشر أيضًا على قيام روسيا بمناورات فى بحر البلطيق، كان آخرها فى أغسطس 2023؛ حيث تم إجراء مناورات «أوشن شيلد 2023»، لاختبار مدى جاهزية قواتها البحرية، لضمان تأمين الممرات البحرية، والدفاع عن الساحل البحرى. بالإضافة إلى تنامى النفوذ الروسى؛ حيث تمتلك روسيا أسطولًا بحريًا فى المنطقة فى كالينينجراد، كما أعلن الرئيس الروسى خلال الاحتفال بيوم البحرية فى يوليو الماضى، عن انضمام 30 قطعة بحرية إلى أساطيلها البحرية، بما سيقوى، ويزايد من قدرت قواته، وهو ما يمثل رسالة ردع، مُوجهة أيضًا للقوى الغربية على خلفية الحرب.
ترسيخ النفوذ: ساهم استمرار الحلف فى انتهاج «سياسة الباب المفتوح»، فى توسع نطاق انتشار قواته، فضلًا عن إحكام سيطرته على عدد من المناطق الحيوية، مثل بحر البلطيق، خاصّة بعد انضمام فنلندا بشكل رسمى، والسويد المرتقب؛ إذ ستعزز الدولتان من قدرات الناتو على مستوى القابلية للتعاون البينى مع قوات الحلف، على خلفية مشاركتهم فى مناورات تابعة للحلف، كما أنّ أنظمة التسليح فى كل من «ستوكهولم» و«هلسنكى» متوافقة مع معايير الناتو، الأمر الذى سيزيد من تواجد الحلف بشكل دائم، فى المجال الحيوى لموسكو، ويطوّق من نفوذها.
تحول جذرى: تعكس قيادة ألمانيا لهذه المناورات رغبة الحكومة الائتلافية فى إظهار مدى التزامها، بإعادة هيكلة سياساتها الخارجية والدفاعية، على المستوى الوطنى، وتحت مظلة الناتو، فى سياق الحرب الروسية ــ الأوكرانية، التى كانت الدافع الأساسى لانتهاج مثل هذا التوجه؛ حيث جاءت استجاباتها لمآلات الحرب متوافقة مع الحلفاء، بشأن إدانة روسيا، ودعم أوكرانيا على مستوى الخطاب السياسى، والآليات التى استحدثتها للممارسة هذا الدور، وهو ما تجلى فى إصدار الحكومة الألمانية أول استراتيجية للأمن القومى الألمانى، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، فى يونيو 2023، تحت عنوان: «قوى، مرن، مستمر.. الأمن المتكامل لألمانيا».
ختامًا، من المُتوقع أن تشهد منطقة بحر البلطيق، ذات الأهمية الاستراتيجية للناتو وروسيا، جُملة من التحولات، على خلفية انتهاج الجانبين سياسة إظهار القوة العسكرية فى المنطقة، دون الدخول فى مواجهة مباشرة، وذلك من خلال تعديل مهام العمليات والتدريبات العسكرية السنوية، التى يتم إجراؤها فى المنطقة، بجانب التركيز بشكل أساسى على اختبار مدى جاهزية القوات، للرد السريع على أى تهديد مُحتمل.
النص الأصلى: