الريح تحمل ليل الشهداء وتمضى
عزة كامل
آخر تحديث:
السبت 15 أكتوبر 2011 - 9:05 ص
بتوقيت القاهرة
لن يقوى أحد على إخفاء الوجع والانكسار، الوجع الذى يطفح من أجسادنا وعيوننا وجدران منازلنا ومن كل شبر فى هذا الوطن الذى يعوى كالثكلى التى فقدت أبناءها فى وسط فضاء مهروس بدماء ولحم القتلى على عجلات المدرعات والأرصفة والإسفلت. أى ليلة ليلاء رمت بنا إلى الهاوية؟!، إلى الأسود المطلق والانكسار الموحش، ليلة التاسع من أكتوبر .. فراغ خشن ثقيل يثأر لخباء موت غاشم رائحته طالت النجوم الشاردة فأطفئت أضواؤها.
مايكل ومينا وبولس وحنا وغيرهم شباب فى عمر الزهور، ثوار نجوا من رصاص الغدر عدة مرات، لكنهم هذه المرة لم يسلموا من الهراوات ودهس المدرعات والغل والكراهية.
خرجت نعوشهم ملفوفة بالألم والمرارة وبكاء الأم والابنة والحبيبة وأصدقاء وصديقات الثورة، لم يلفهم العلم الذى رفرف فى أيدى هؤلاء الفرسان عاليا فى ميدان التحرير والشوارع والأزقة وهم يرددون بأعلى صوتهم حرية، كرامة إنسانية، عدالة.. مصر حرة، لم يكن أحد يتوقع أن يتم اغتيالهم وقتلهم وسحقهم على أيدى جنود الجيش (حماة الوطن) الذين وضعوا أيديهم فى أيدى البلطجية لإتمام مهمة قتل الكافرين، هذه المهمة التى بوركت بضجة إعلامية وسياسية.
كل تعصب يأخذ شكل طلقة، طعنة سكين، خنجر وهراوة ثقيلة، العنف صنو التعصب يسقط معه كل أشكال التضامن.
فشعار الجيش والشعب يد واحدة أصبح الجيش والشرطة والبلطجية يد واحدة، ومثلما لا نجد نهاية للفكر الأصولى لمبررات العنف المسلح المستلهم من الذرائع الدينية وعقدة الخوف من الآخر، كذلك لا نجد على من أعماهم وغرر بهم التعصب نهاية لهذا التطبيق حتى لو كانوا من أبناء الشعب البسطاء، هذا التعصب الذى يطفئ الأنوار فى القلوب والعقول.
●●●
وكأن التاريخ يعيد نفسه، لقد سعى السادات لإنشاء حكم أوتوقراطى دينى استعان فيه بالإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية الأخرى ضد اليسار والناصرين، وقد جرى صياغة أجهزة الدولة وتشريعاتها آنذاك طبقا لذلك، ولعبت وسائل الإعلام دورا خطيرا فى مساندة هذا التوجه إلى جانب خطباء بعض المساجد لإشاعة وتعزيز المناخ الطائفى الدينى ونتيجة لذلك بدأت أعمال العنف والاضطهاد ضد الأقباط تزداد وتصاعد الاعتداء على الكنائس وأشتد بأس الحركات الإسلامية وبدأت تهدد النظام نفسه مما اضطره أن يرفع شعار الوحدة الوطنية فى مواجهة الإسلام السياسى، ولكن هذا الأخير انتصر لنفسه بإطلاق الرصاص على «السادات»، وكأننا لا نتعلم ونصر على تكرار المآسى والمجازر فمثلما انتهى مصير تقرير لجنة تقصى الحقائق التى شكلت فى أعقاب حادثة حريق كنيسة الخانكة فى عام 1972 بوضعه فى الأدراج انتهى أيضا مصير تقرير لجنة تقصى الحقائق، ولم يأخذ بالتوصية التى صوت عليها جميع أعضاء اللجنة ومن ضمنهم المستشارة نهى الزينى والتى طالبت بإقالة محافظ أسوان الذى أدلى بتصريحات غير مسئولة أججت الاحتقان الطائفى، وكالعادة لم يُستجب لهذه التوصيات وكأننا فى عهد النظام البائد، وحدثت بعدها مأساة ماسبيرو التى تمت فى 9 أكتوبر، وكأن هذه اللجان تشكل من أجل أن يتزين بها المسئولون ويتباهوا بها إعلاميا فقط، إن مسئولية ما حدث فى 9 أكتوبر تقع على عاتق حكومة شرف التى لم تأخذ بهذه التوصيات وعلى عاتق المجلس العسكرى الذى شارك جنوده فى هذه المأساة، وكان بالأحرى على حكومة شرف أن تقدم استقالتها وتعلن فشلها.
●●●
إن الأحزاب السياسية إذا لم تضع تصورا متماسكا فى برامجها تعمل على تحقيق حل لمشكلة المواطنة وإنهاء مسألة الفتنة الطائفية فستكون مسئولة أيضا عن وأد هذه الثورة.
إن موضوع المواطنة يجب أن يخرج من إطار المؤسسة الدينية (الكنيسة ــ الجامع ــ الأزهر) ويجب أن تلغى مصطلحات ما يسمى بالشعب القبطى أو الشعب المسلم، كلنا مصريون وقد حدث ذلك مع الثورة، فمنذ قيام الثورة خرجت الجموع الغفيرة من المسيحيين كمواطنين مصريين للمشاركة فى الثورة، لم تنتظر أوامر من الكنيسة للموافقة على هذه المشاركة، فلم تعد الكنيسة فى هذا الوقت من عمر الثورة القصير هى القوة الدينية والقوة السياسية كما حدث فى السابق عندما فرضت العزلة السياسية على الأقباط فى السبعينيات مما جعل قيادة الكنيسة هى القيادة الممثلة والمعبرة عن الأقباط، فلماذا تهدم روح الثورة الآن بعدما ذاب مسيحيوها ومسلموها فى النسيج الوطنى.
إن القانون وحده لا يكفى لتحقيق مجتمع ديمقراطى قوى يؤمن بالمواطنة ويطبقها، فوجود إعلام مهنى غير منحاز لسلطة أو طائفة دينية وفضاء عام تنتعش فيه الفنون والآداب ويحترم فيه حرية التفكير والضمير والدين والتعبير والحق فى الأمن وتحقيق عدالة اجتماعية وتكافؤ فرص بين الجميع هو الذى يعتبر ضمانة حقيقية لمنع أى دعوات طائفية أو انتشار فكر متعصب يعمل على تقويض وحدة الوطن.
لابد من إشاعة ثقافة المسئولية المدنية لدى المواطنين المصريين بمعنى احترام المصلحة العامة ومبادئ قبول الآخر والتسامح وحقوق الغير ومناهضة أى ثقافة طائفية تسيد العنف والوحشية.
●●●
إن الجيش المصرى يجب أن يقوم بدوره التاريخى المرسوم له وهو حماية الوطن والدفاع عنه من الأعداء التاريخين وهم إسرائيل، وليس منوط للمجندين به أن يلعبوا دور جهاز الشرطة فى القمع والقتل ويجب أن يسموا بأنفسهم من هذا الدور الذى قد يجلب عليهم العار.
أنا على يقين أن المجلس العسكرى لم يصدر أوامر للدبابات لتدهس المتظاهرين وتقتلهم ولكن الجنود المسلمين الذين يقودون المدرعات ارتدوا إلى ديانتهم واعتبروا أن أى فرد غير مسلم فهو كافر وعدوهم، وبالتالى أصدروا هم أنفسهم الأمر بعملية الدهس والقتل، وهذا أمر خطير جدا أن ينتشر هذا بين صفوف الجيش لأن ما يميز جيشنا المصرى هو الحفاظ على نسيجه الوطنى ووحدته الوطنية حتى لا يحدث انقسام داخله ولا يصبح يدا واحدة فى مواجهة أعداء الوطن التاريخيين.
على المؤسسة العسكرية أن تعتذر نيابة عن هؤلاء جميعا و أن تحترم دماء الشهداء وأن تنأى بنفسها عن لعب هذا الدور الذى قد يؤدى للانقلاب عليها وجر البلاد إلى حرب أهلية لا نستطيع الخروج منها أبدا.
●●●
يجب أن نكرم هؤلاء الشهداء بعمل جنازة شعبية لهم تخرج من ميدان التحرير تكريما وإجلالا واعتذارا على الجرم الذى ارتكبته كل الأطراف السابقة تجاههم ويتحول صوت وداعهم لصدى لن ننساه أبدا وحتى لا يطاردنا العار.. عار قتل الثوار ويتحول حلمنا إلى كابوس.