نشر موقع 180 مقالا للكاتب سميح صعب، يقول فيه إن الإدارة الأمريكية الآن تركز على مساعدة إسرائيل فى حربها ضد حماس على حساب أوكرانيا، محاولةً عدم إطالة أمد الحرب حتى لا تخاطر بمصالحها الاستراتيجية تجاه روسيا والصين، ولذا أرسلت حاملة طائرات للمنطقة لمنع توسيع ميدان القتال. رأى الكاتب أيضا أن التطورات الأخيرة ما هى إلا فترة انتقالية لنظام عالمى جديد متعدد الأقطاب... نعرض من المقال ما يلى:حرب شرق أوسطية أخرى. هذا ما لم يكن مدرجا على جدول أعمال الرئيس الأمريكى جو بايدن، ريثما يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود فى المواجهة الكبرى الدائرة مع روسيا فى أوكرانيا.
بعد هجوم حماس على مواقع الجيش الإسرائيلى ومستوطنات قطاع غزة (غلاف غزة)، أصيبت إسرائيل بالصدمة الثانية. ظهر نتنياهو ضعيفا بينما سارع بايدن إلى الإمساك بزمام المبادرة من خلال إرسال حاملتى الطائرات (جيرالد فورد) و(دوايت أيزنهاور) إلى شرق المتوسط مع جسر جوى لنقل السلاح والأعتدة على عجل إلى إسرائيل، فى تكرار لمشهد 1973.
ويهم بايدن أن يظهر الآن فى مظهر المُنقذ لإسرائيل من «ضلال» نتنياهو وتعديلاته القضائية وحكومته المتطرفة، وأن يؤكد أنه أحرص على إسرائيل من بعض قادتها، لا سيما مع بدء موسم الحملات للانتخابات الرئاسية لعام 2024. فرصة سيحاول الرئيس الديموقراطى استغلالها حتى النهاية. وهذا سر غضب الرئيس السابق دونالد ترامب الذى وصف صديقه نتنياهو بأنه «أحمق» بسبب أحداث غزة.
وفى واقع الأمر لا ينقذ بايدن إسرائيل فحسب، بل هو يحاول إنقاذ مجمل السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط، بعدما تبدى أنه من نتائج هجوم حماس، توجيه ضربة لمساعى التطبيع التى تقودها واشنطن بين السعودية وإسرائيل، وأن الكفة فى المنطقة مالت بما لا يدع مجالا للشك لمصلحة إيران، وبالتالى صار التطبيع بحكم المُؤجل حاليا وصارت المنطقة فى غياهب المجهول.
وبرغم الاندفاعة الأمريكية مُجددا نحو الشرق الأوسط، فإن هاجس بايدن ينصب بشكل أساسى على عدم توسيع نطاق الحرب وتحولها نزاعا إقليميا واسعا، كفتح جبهات أخرى على إسرائيل عبر حدود كل من لبنان وسوريا. أى توسيع للنزاع، يعنى فى الحسابات الأمريكية أن الولايات المتحدة قد تجد نفسها مضطرة للانغماس فى نزاع مديد، وتاليا المخاطرة بالخسارة فى أوكرانيا أمام روسيا وتوجيه ضربة لجهود احتواء الصين فى المحيطين الهادئ والهندى.
أمريكا تُدرك أن بوتين يضحك فى سره الآن. هذه فرصة لن يمنحها بايدن لبوتين. ومن هنا قد تُفهم الرسائل المزدوجة التى تُوجّهها واشنطن إلى طهران. من جهة، يقول المسئولون الأمريكيون إنهم لا يملكون أدلة دامغة على تورط طهران فى هجوم حماس، ومن جهة ثانية، يُذكّرون بالدعم القوى الذى تقدمه إيران للحركة عموما. ولم تأخذ المعلومات التى أوردتها صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية، حول مشاركة الحرس الثورى وحزب الله فى الإعداد منذ أشهر لهجوم حماس، صدى واسعا فى أوساط الإدارة الأمريكية التى بقيت ملتزمة جانب الحذر حيال إمكان علم إيران بالهجوم مسبقا.
السلوك الأمريكى الغامض يؤكد بأن واشنطن على وعى تام بأن عدم توسيع الحرب يتطلب تعاونا إيرانيا. ولذا تترك هامشا لعدم زج طهران مباشرة فى الهجوم. وفى الوقت نفسه، أرسلت تعزيزات عسكرية إلى الشرق الأوسط تحت عنوان ردع أطراف ثالثة عن الدخول فى المواجهة، والمقصود بها حلفاء إيران فى المنطقة، ولا سيما حزب الله.
لكن إلى أى مدى يُمكن أن تتوافق أجندة أمريكا مع أجندة نتنياهو الذى يقول إنه سيخوض حربا «لتغيير الشرق الأوسط» لمدة 50 عاما مقبلة، بدءا من الدفع بسكان غزة إلى النزوح نحو سيناء، وربما غدا الدفع بسكان الضفة إلى الأردن.
تفترض المصلحة الأمريكية فى عدم إطالة الحرب، الجنوح إلى الواقعية أكثر وعدم الانجرار إلى العناوين الإسرائيلية الكبرى، لا سيما وأن الولايات المتحدة التى يتعين عليها الآن دعم حربين فى آن واحد، وإن كانت الأفضلية التى تمنحها واشنطن هى لإسرائيل وليس لأوكرانيا.
إن تدهورا دراماتيكيا على جبهة أوكرانيا قد يكون مُكلفا بالنسبة للمصالح الأمريكية الاستراتيجية فى إضعاف روسيا، خصوصا وأن بوادر التعب الغربى كانت قد بدأت تظهر بعمق، قبل نشوب حرب غزة، عندما جمّد الحزب الجمهورى المساعدات التى طلبها بايدن بقيمة 24 مليار دولار لأوكرانيا.. والدول الأوروبية هى الأخرى قد تراجعت حماسة شعوبها لدعم كييف وهم يتوقعون فواتير أغلى ثمنا للتدفئة فى الشتاء المقبل.
بايدن الذى أتى إلى البيت الأبيض باسم إنهاء الحروب الأمريكية فى الخارج، يجد نفسه اليوم فى خضم حرب جديدة يصعب تبين معالم حدودها حتى الآن، وفى أى اتجاه يمكن أن تمضى، وهى دليل آخر على فقدان الولايات المتحدة الكثير من تأثيرها فى الشرق الأوسط وفى العالم.
قبل غزة كانت حرب أوكرانيا، وتوتر بين الصين وتايوان، وحرب متجددة فى السودان، وحمى قومية متشددة تجتاح الهند بقيادة ناريندرا مودى، وهذه هى أفريقيا تصاب مجددا بعدوى الانقلابات العسكرية، وكأن السمة الغالبة لعالم اليوم هى الفوضى. النظام العالمى بقيادة أمريكا يواجه حربا واحدة بجبهات متعددة، وفق ما ترى صحيفة (وول ستريت جورنال) الأمريكية.
الكاتب فى صحيفة النيويورك تايمز ديفيد ليونهاردت يعطى تفسيرا بسيطا لكل ما يجرى اليوم وهو أن العالم يعيش مرحلة انتقالية إلى نظام جديد يصفه الخبراء بعبارة التعددية القطبية، عالم لم تعد فيه الولايات المتحدة القوة المهيمنة التى كانتها، ولم يظهر بديل منها بعد.
يواجه جو بايدن اليوم تحديا عسيرا يتمثل فى سؤال مكثف: ماذا ينفع الرئيس الأمريكى لو ربح فى إسرائيل وخسر أوكرانيا؟
النص الأصلى: