السير عكس التاريخ والزنديق والمنبوذ على قمته
إكرام لمعي
آخر تحديث:
الخميس 15 نوفمبر 2012 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
هناك فترات تاريخية مفصلية فى حياة الشعوب، فيها تقف مع ذاتها لتقرر بكامل حريتها ما الذى يجب أن يكون عليه مستقبلها، وهذه اللحظات نادرة فى التاريخ، لكن عندما تأتى لشعب من الشعوب فإنها تختبر مدى صدق وإرادة وجدية هذه الشعوب فى التطلع لمستقبل أفضل، وهذه الفترة عادة ما تأتى بعد ثورة شعبية، وقبل أن تستقر الأوضاع تحت ظل دستور حضارى وجيش متفهم وقيادة واعية. والشعب الواعى هو الذى يدرس تجارب الآخرين الذين استطاعوا أن يعبروا مثل هذه اللحظات وحققوا نجاحا.
●●●
وبنظرة عامة على خريطة العالم ودراسة تاريخ معظم شعوبه نجد أن التاريخ فى مجمله يسير فى اتجاه واحد ما عدا القليل من الشعوب التى تتردد أو تسير فى الطريق المعاكس، وهذا الطريق الواحد للصعود هو انتقال الشعوب من الحكم الدينى الثيوقراطى إلى الحكم العسكرى الديكتاتورى ثم إلى الحكم الديمقراطى الذى يعتمد على الليبرالية الفكرية وحقوق الإنسان، ولنرصد معا ــ عزيزى القارئ ــ هذه الظاهره التاريخيه فقد عانت أوروبا فى القرون الوسطى من تسلط الكنيسة والحكم الدينى حتى قامت ثورة الإصلاح الدينى والتى حولت أوروبا ثقافيا وسياسيا واجتماعيا إلى دول ديمقراطية علمانية مدنية ينفصل فيها الدين تماما عن نظام الحكم ويصبح أمرا فرديا بحتا، وهكذا صارالفاتيكان مركزا روحيا والبابا أبا روحيا ولا دخل له بتعيين أو خلع ملوك أوروبا، كما كان من قبل وصارت ملكة إنجلترا رئيسة الدولة والكنيسة شكلا بدون مضمون، وقد تأسست أمريكا على مبادئ الإصلاح وسارت فى طريق الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان فحررت العبيد ليصيروا مواطنين متساويين فى الحقوق والواجبات ونفس الأمر نجده فى تاريخ اليابان والصين وجنوب شرقى آسيا، ومن لم يصل منهم فقد قارب على الوصول، وفى الدول العربية الإسلامية نجد ان الحكم انتقل من الحكم الدينى فى الخلافة الأموية ثم العباسية وأخيرا العثمانية وبثورة كمال أتاتورك عام 1926 أسقطت الخلافة وتحولت تركيا إلى دولة علمانية.
لكن تاريخ العرب يبدو وكأنه يسير عكس التاريخ ولنأخذ مثالا لذلك مصر، فمصرحكمت بالحكم الدينى تحت ظل الخلافة الإسلامية حتى جاء محمد على وأسس الدولة الحديثة وأكمل الخديو إسماعيل المسيرة وبدأ الأمر وكأن مصر تسير فى الطريق الصحيح للتاريخ فكانت الحقبة الديمقراطية الليبرالية، ولأنها لم تكن حقبة متكاملة الأركان اكتسحتها الحركة القومية العسكرية الديكتاتورية، وجاء الربيع العربى وتفاءل العالم بأن التاريخ العربى سوف يسير أخيرا فى الطريق الصحيح وإن هذه الثورات قفزة نحو المستقبل لكنه فوجئ بأن الإسلاميين قفزوا للحكم وأن الدعوة الرئيسية لهم هى العمل على عودة الخلافة وتطبيق الشريعة، أى الدولة الدينية!
●●●
وهكذا فى التاريخ الحديث نحن فقط الذين بدأنا، بالليبرالية ثم خلفتها القومية وأخيرا خلفتها الإسلامية، وهذا تماما عكس المسيرة الصحيحة للتاريخ، فالإسلاميون خلفاء القوميين خلفاء الليبراليين، ولذلك فالحوار الدائر الآن حول دستور الثورة حوار غير عقلانى أو موضوعى، فهناك من يريد تطبيق الشريعة لا لشىء إلا ليحصل على شعبية فهو ينادى بذلك وعينه على الحكم لأنه لم يقدم تصورا متكاملا عما يتحدث عنه، أو على الأقل لم يقل لنا ما هى النتائج المترتبة عن تطبيق الشريعة على أرض الواقع، وما شكل المجتمع والاقتصاد المصرى إذا ما طبقت أحكام الشريعة، وما الدول النموذج لهذا التطبيق؟
رأينا وسمعنا كل فصيل يكفر الفصيل الآخر ويتهمة بالزندقة والخروج عن الدين لأنه لا ينادى بتطبيق الشريعة، ليس هذا فقط بل إن جماعة الإخوان المسلمين قدمت اقتراحا إلى بابا الأقباط الجديد فى بيان اصدرته مؤخرا أن يتبنى دعوة إلى «دعم الشريعة الإسلامية «مستشهدا بمقوله للبابا شنودة، وأن عليه أن ينهى الدور السياسى للكنيسة، وهذه الدعوة إن دلت على شىء فإنما تدل ليس فقط على إخراج البابا عن مهمته التى انتخبه لأجلها أعضاء كنيسته لكن أيضا تدل على نظرة الجماعة إلى الآخر المختلف، إن الجماعة هنا لا تقبل الآخر المختلف كما هو وهى نفس نظرتها للمسلم العلمانى أو الليبرالى اوحتى السلفى ثم يطلب البيان ــ وهذا غريب ــ أن تنأى الكنيسة بنفسها عن السياسة فى الوقت الذى فيه تقوم هى بعمل العكس تماما.
●●●
وهنا أذكرك ــ عزيزى القارئ ــ بالاثنين اللذين تنافسا مؤخرا على رئاسة أعظم دول العالم (أمريكا) لقد انحصرت المنافسة بين منبوذ وزنديق، فأوباما أسود من أب مسلم، والسود كان لا يسمح لهم بدخول كنائس البيض ولا مدارسهم، ولا أن يجلسوا بجوارهم فى الأتوبيسات والأماكن العامة ورغم أن هذه المظاهر انتهت فإن بعض الأمريكيين البيض يرونهم أقل ذكاء حتى اليوم، ومع ذلك سمح له الجو الديمقراطى المتسامح أن يصل إلى رئاسة الولآيات المتحده وأن يفوز بها مرتين مرة أمام (ماكين)، وهو من المسيحيين المحافظين البيض والأخرى أمام محافظ أبيض أيضا، لكنه زنديق من طائفة المورمون وهى طائفة تعتبرها جميع الطوائف المسيحية هرطقة وزندقة، فقد آمن المرمون بنبى اسمه جوزيف سميث الذى أعلن أن الله أرسل له ملاكا يدعى مورمون وهذا الملاك أبلغه بأن اليهود هم الذين اكتشفوا أمريكا عام 70 م بعد خراب أورشليم إذ أخذ بعضهم صفائح ذهبية منقوشا عليها التوراة وعبروا بها المحيط وقد دفنوا هذه الصفائح الذهبية فى نيويورك وأطلعه الملاك مورمون على مكانها، لكن قبل أن يطلع أحدا عليها قبض عليه وقدم للمحاكمه، واثناء وجوده فى السجن تم اغتياله من بعض الشباب المتطرف، وهذه الطائفة تسمح بتعدد الزوجات بلا تحديد رقم معين، وتحرم تناول أى مشروبات روحية أو غازية أو كافيين.. إلخ. ولأجل كل هذه الأسباب لا يعتبر ميت رومنى وطائفته مسيحيين ومع ذلك سمح له الشعب الأمريكى بسبب كفاءته أن يرشح نفسه رئيسا للجمهورية وكان قريبا جدا للفوز وما آثار تعجبى واستغرابى كيف لم يستغل منافسوه نقطة الضعف هذه ضده وبسؤالى لصديق أمريكى قال بالعكس لو أن منافسيه عايروه بكفره لتعاطف معه كل الأمريكيين لأن هذا ليس من الأخلاق ولا الدين أو التحضر ولفاز فى الانتخابات، وحادثة أخرى ــ عزيزى القارئ ــ عندما ذهب أوباما للإدلاء بصوته أصرت الموظفة أن تتحقق من هوية الرئيس الأمريكى أوباما بالنظر إلى صورته فى البطاقة الشخصية التى يحملها ومطابقتها مع وجه الواقف أمامها فى غرفة تسجيل الأصوات، لأنه واجبها، وكأنها تقول «الشغل شغل يا ريس».
●●●
ترى كم عدد السنوات الضوئيه التى تفصل بيننا وبينهم؟ وهل هناك أمل فى الوصول إلى هذا المستوى فى قبول الآخر والالتزام بواجباتنا. فى لقاء مؤخرا مع الرئيس د.محمد مرسى بمناسبه زياره وفد ألمانى رفيع المستوى تحدث د.مرسى عن أن مصر كدولة ديمقراطية مدنية حديثة يأمل فى أن تكون أفضل من ألمانيا إن لم تساوها على الأقل فى المستقبل، وأننا الآن نمر بمرحلة انتقالية ويجب أن يكون الانتقال بهدوء، لكن بثبات عزيزى القارئ أتصور أن أمام د.محمد مرسى فرصة ذهبية لكى يقطع السير العكسى للتاريخ المصرى والذى تمثل فى الانتقال من الليبرالية إلى القومية إلى الإسلامية، ويقوم بتعديل المسار بتحقيق ما قامت الثورة لأجله: حرية ــ عدالة ــ كرامة ــ إنسانية، وعندئذ سيسطر اسمه فى التاريخ المصرى والعالمى بأحرف من نور فهل يستطيع؟!
أستاذ مقارنة الأديان