لصوص السكر
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الخميس 15 نوفمبر 2018 - 12:05 ص
بتوقيت القاهرة
يصنف علم النفس هوس السرقة كمرض، إذ لا يستطيع من أصيب به أن يكبح حاجة ملحة لديه أن يجذب شيئا ويخفيه، فهنا يكمن الانتصار. فى حالة الإصابة بهذا المرض، غالبا ما تكون المسروقات أشياء عادية أو غير مهمة، لا قيمة فعلية لها، لكن الهوس يتحكم بالعقل فيجعل من سرقة قلم من الرصاص أو الصابونة الصغيرة أمرا مثيرا.
***
أنا أسرق السكر. نعم، أتسلل برفق، أمشى على رءوس أقدامى فلا يسمعنى من فى البيت، أدعى أننى متجهة نحو باب الدخول لكنى أغير خطاى فى اللحظة الأخيرة وأنزلق بخفة داخل المطبخ. أتسمر فى مكانى لثوان أتنفس فيها بهدوء شديد وأتأكد أن أحدا لم يرنى أو يسمعنى. ثم أبدأ بالحركة، آخذ خطوة كبيرة باتجاه طبق الحلوى وأسحب القدم الثانية. أمد يدى وأرفع الغطاء عن الكنز لكنى لا أضعه، أى الغطاء، على سطح المطبخ خوفا منى أن يحدث الغطاء صوت ارتطام فيهرع من فى البيت إلى المطبخ ويرونى.
***
ها أنا أمارس هواية لم أتوقف عنها منذ كنت طفلة تسرق السكر من خلف ظهر والدتها. كنت أتسلل أيضا فى غيابها إلى الرف حيث وضعت طبق الحلوى وكنت أقطع قطعا صغيرة تكاد لا تظهر للعين، متعمدة أن أقطعها من الخلف، أى من طرف الحلوى الموازى للحائط فلا ترى أمى الفراغ إن دخلت فجأة إلى المطبخ. كنت فى كل مرة أحدث فراغا صغيرا فى قالب الحلوى أشعر بزهو انتصارى على دقة ملاحظة أمى، إذ إنها لم تعاتبنى قط، واستمررت أنا فى سرقة قطع هى أقرب إلى الفتات وأنا متأكدة من دقتى وضعف ملاحظة والدتى.
***
ها قد مرت سنوات كثيرة منذ دخولى مطبخ بيت عائلتى كطفلة تنخر الحلوى المعدة للضيوف. فى مطبخى فى القاهرة أنظر إلى حلوى أعددتها وتركتها على سطح المطبخ لتبرد، فألمح فراغا صغيرا فى الخلف. أقترب من الطبق وأنظر بتركيز: أعرف أن يدا صغيرة مرت من هنا واقتلعت القطعة مقتنعة أننى، كما فعلت أمى من قبلى، لن ألاحظ الفراغ.
***
هناك لحظة تبدو فيها الحياة وكأنها مروحة يدوية كتلك التى تستخدمها السيدات فى المجالس لتحريك الهواء قرب وجوههن. حين تنتهى إحداهن من حركتها فإنها تطوى المروحة لتعتدل جميع أجزائها كأنها كلها قطعة واحدة. هكذا تبدو الحياة حين أضع صورتى كطفلة تسرق قطعة حلوى فوق صورة ابنى وهو يفعل الشيء ذاته. أفهم وقتها أنه لا بد وأن تكون والدتى قد لاحظت الفراغ وكتمت ضحكتها، فهى لو أعربت عن اكتشافها ستضطر أن تعاقبنى وداخلها جزء طفولى فرح بطفلتها، أنا، التى تظن أنها أذكى من أن يكتشف سرها، لذا فمن الأفضل أن تتصرف وكأن شيئا لم يكن.
***
أفتح المروحة وأرى أجزاء من الحياة، صورا مترابطة من طفولة ومراهقة وشباب وأمومة شابة ثم ناضجة، أحرك المروحة قرب وجهى وأشم رائحة البيت والقهوة والمطر، هناك رائحة الغسيل النظيف أيضا الذى يذكر بالبيت وبأحاديث تطغى الضحكات فيها على صوت الغسالة بعد الظهر. أغلق المروحة فيلتصق وجهى بوجوه الجيران من بيتى فى القاهرة وفى دمشق، نصبح جميعنا وجها واحدا لأم عابرة للأزمنة تحاول ألا تضحك حين ترى قضمة على طرف قالب الحلوى فى المطبخ، فكلنا تلك الأم وعلى الأرجح أننا كنا أيضا كلنا ذلك الطفل الذى لم يتمالك نفسه فاختلس لقمة من السكر. أفتح المروحة الورقية فأشم رائحة صابون الغار حين أحركها قرب وجهى. الغار سر فى بيوت سورية كثيرة، فهو يعطر الأجساد والأيادى ويحفظ السجاد من الحشرات فى الصيف، كما أنه يندس بين الثياب ليعطيها هى الأخرى رائحة عابرة للأزمنة، كنت أكرهها فى طفولتى فقد كنت تواقة إلى روائح الفراولة والفانيليا الاصطناعية، ولطالما حاولت أمى أن تقنعنى بفوائد زيت الزيتون وورق الغار دون جدوى، إلا أننى اليوم، وأنا أحرك مروحة الزمن قرب وجهى، أعود طفلة تدخل يدها فى خزانة جدتها بحثا عن عملة معدنية فتمسك صابونة غار بدلا من الليرة.
***
هل تصنف قضمة صغيرة من الحلوى على أنها سرقة؟ هل تشكل تلك الحركة اللا إرادية مادة للعلاج النفسى بصفتها هوس السرقة كما تنص عليه أدبيات علم النفس؟ أم إنها قضمة من الطفولة أبلعها مع كأس من الحليب الدافئ فتطبطب على ذكريات وتغلفنى رائحة صابون الغار ورائحة الغسيل النظيف؟ هى سرقة، سرقة لحظات لا أريدها أن تذهب بلا عودة، هى سرقة فتافيت من الوقت أقضيه مع أمى وهى شابة ومع ابنى وهو طفل قبل أن يغلق هو نفسه المروحة اليدوية فيطبق وجهى على وجه أمى وجدتى من قبلها ونصبح ثلاثتنا من الماضى عند شاب خرج من بيت أهله واستقل فى حياته بعيدا عن والديه.
***
أنا لصة سكر ما زلت أحلم بقضم الحلوى سرقة دون أن تلاحظ أمى، أحلم بلعق غيمة لونها وردى تمر فوق رأسى وأنا أجلس فى حضن أمى فنكهتها هى نكهة يوم ربيعى أخذتنى فيه أمى فى حضنها وعاتبتنى وهى تضحك على سرقتى للسكر.