دليل الرجل الذكى إلى فن اصطياد سمكة كبيرة بسمكة صغيرة

جلال أمين
جلال أمين

آخر تحديث: الجمعة 16 ديسمبر 2011 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

من خمسمائة عام (فى سنة 1513)، ظهر فى إيطاليا كتاب خطير، ظل يثير الجدل لمئات السنين بعد ظهوره، وأصبح اسم مؤلفه، بسبب هذا الكتاب، معروفا للجميع (سواء قرأوا الكتاب أو لم يقرأوه)، وظل اسمه يتخذ رمزا لرذيلة ممقوتة فى ممارسة السياسة وفى الحياة اليومية على السواء.

 

الكتاب اسمه «الأمير»، والمؤلف اسمه «ماكيافيللى». وسبب الشهرة أنه شرح بأسلوب واضح وفصيح كيف أن النجاح فى السياسة يتطلب الخروج على قواعد الأخلاق، وأن السياسى (أو الأمير) الناجح لابد له من اتباع وسائل غير أخلاقية فى معاملته لشعبه، فإن لم يفعل فإن نصيبه الفشل الذريع وربما دفع حياته ثمنا لذلك.

 

أثبت ماكيافيللى بهذا الكتاب «سواء أعجبتك نصائحه أو لم تعجبك» أنه كان مراقبا جيدا جدا للنفس البشرية، وفاهما لأوجه ضعفها التى تجعلها فريسة سهلة لمن يعرف أوجه الضعف هذه ويريد استغلالها لصالحه.

 

بعد كتاب ماكيافيللى بثلاثة قرون (أى فى مطلع القرن التاسع عشر) استولى رجل بالغ الذكاء على حكم مصر، ولم يتورع عن ارتكاب أعمال منافية لأبسط قواعد الأخلاق، من أجل ترسيخ حكمه لمصر، وكانت نتيجة ذلك أنه استمر هو وأولاده وأحفاده يحكمون مصر لمدة تقرب من قرن ونصف القرن. وقد ذكر له أحد مساعديه مرة أن هناك كتابا مهما يحسن أن يقرأه، وهو كتاب ماكيافيللى، فأمره محمد على بترجمته وبأن يقرأ عليه فى كل يوم فصلا من فصوله، ولكن لم تنقض أيام قليلة حتى أمره محمد على بالكف عن الترجمة والقراءة، فهو (أى محمد على)، ليس فى حاجة لمثل هذا الكتاب، إذ إنه يعرف من وسائل الخدع والحيل التى تمكنه من الاستمرار فى الحكم أكثر بكثير مما كان يعرف ماكيافيللى.

 

كان ماكيافيللى يكتب منذ خمسمائة عام، فلم تتح له تجارب خمسة قرون، لابد أنها حفلت بالكثير من الدروس التى كان من الممكن أن تضيف الكثير من الحيل والألاعيب إلى كتابه. ومحمد على كان يكتب منذ قرنين، فلم تتح له هو الآخر معرفة وسائل الحكم الحديثة، ولا شهد تطورات تكنولوجية جبارة كان يمكن أن يحقق منها فوائد كبيرة فى خداع شعبه، لم يكن الراديو قد اخترع بعد، ولا الصورة الفوتوغرافية ولا التليفزيون بل حتى الصحف كانت شيئا نادرا، وتوزيعها محدودا للغاية، وتكاد تقتصر على نشر الوقائع الرسمية، ومن ثم كان هذا هو اسم الجريدة الوحيدة التى كانت تصدر فى عهده.

 

لم يشهد محمد على ما فعله جمال عبدالناصر بالصحف والإذاعة (وعلى الأخص إذاعة صوت العرب) وكيف استفاد من أغانى المطربين لتدعيم ثورته، ثم من التليفزيون الأبيض والأسود فى السنوات العشر الأخيرة من حياته، ولا ما فعله أنور السادات وحسنى مبارك بعد ذلك، خاصة بعد أن دخل التليفزيون الملون كل بيت تقريبا من بيوت المصريين. من المؤكد أن عبدالناصر والسادات ومبارك كان لديهم من النصائح التى كان من الممكن أن يوجهوها لمحمد على لإحكام قبضته على شعبه، ولتضليله عند اللزوم، مما لم تكن له أو لماكيافيللى إحاطة به.

 

وقد يظن البعض أن الأمر قد انتهى بقيام ثورة 25 يناير 2011، ولكن الحقيقة أن عشرة أشهر فقط كانت كافية لأن تكشف عن أوجه ضعف أخرى فى النفس البشرية، ربما لم تكن واضحة تماما فى ذهن ماكيافيللى أو محمد على، ولكنها ذات فائدة مؤكدة لأى حاكم حصيف.

 

وقد حاولت أن أستعيد فى ذهنى ما ظهر فى مصر خلال الشهور العشرة التالية لثورة يناير، من أوجه الضعف الإنسانى، التى استغلها الممسكون بالسلطة من أجل تقليم أظافر الثورة، فتوصلت إلى خمسة أوجه للضعف الإنسانى، يمكن الإفادة منها على النحو التالى:

 

أولا ــ اتق شر من أحسن إليك:

هناك حكمة شائعة ومعروفة تقول: «اتق شر من أحسنت إليه»، ولكن قد يكون الأقرب إلى الصواب أن عليك الحذر من شر من أحسن إليك. ذلك أنه إذا قدم شخص لك خدمة، ولو بسيطة، يمكن أن يستخدمها فيما بعد لكى يحصل منك على خدمات تفوق قيمتها أضعاف ما قدمه إليك. فإذا بدرت منك أى بادرة احتجاج، سارع بتذكيرك بالخدمة التى سبق أن قدمها إليك. مثال ذلك أن امتناع جنود الجيش أو الشرطة العسكرية عن ضرب الثوار فى ميدان التحرير، يمكن أن يستخدم المرة بعد الأخرى لتبرير قيامهم بضرب الثوار بعد ذلك.

 

ثانيا ــ كيف تصيد سمكة كبيرة بسمكة صغيرة:

إذا طالبك شخص بشىء ليس لديك أى رغبة فى إعطائه له، فلا ترفض طلبه، بل تظاهر باستعدادك للاستجابة له، واكسب ثقته بإعطائه جزءا صغيرا مما يطلب، ثم استمر فى تأجيل تسليم الباقى، شهرا بعد شهر، وأثناء ذلك حاول بطريقة أو بأخرى استرداد ما دفعته له من قبل.

 

مثال ذلك، إذا طالب الناس بدستور جديد، أخبرهم بأنك ستقوم مؤقتا بتعديل بعض المواد على أن يوضع دستور جديد بعد انتخاب برلمان جديد. سيفرح الناس بشدة بتعديل بعض مواد الدستور، وسيتسابقون إلى صناديق الاستفتاء على هذا التعديل، ثم اشغلهم لعدة شهور فى حوارات حول الشكل الذى يمكن أن يكون عليه الدستور الجديد، وحول طريقة تشكيل اللجنة التى ستقوم بوضع المعايير التى سيتم على أساسها تشكيل اللجنة التى ستقوم بوضع الدستور ثم اشغلهم بعد ذلك بالمناقشة حول وثيقة تتناول شكل الدولة التى سوف ينص عليها الدستور الجديد.. إلخ.

 

والأرجح أنه خلال هذه الفترة سوف ينسى الناس ما هو المهم وما هو غير المهم من البنود التى يمكن أن يتضمنها الدستور، فإذا وضع الدستور فى النهاية، بشكل أو آخر، فالأرجح أنه لن يختلف فى أى شىء مهم عن الدستور الذى كان مطلوبا إلغاؤه، وسوف يتم على أى حال العبث به والخروج عليه بنفس الوسائل التى استخدمت فى العبث والخروج على كل الدساتير السابقة.

 

ثالثا ــ آفة حارتنا النسيان:

لا تنس الحكمة البليغة التى قالها نجيب محفوظ فى إحدى رواياته: «آفة حارتنا النسيان»، وحاول بقد الإمكان استخدامها لصالحك. خذ مثلا مطالبة الشعب باسترداد الأموال التى استولى عليها رجال العهد السابق بغير وجه حق. ابدأ بالتعبير عن ضرورة هذا الاسترداد، وحق الشعب الذى لا يمكن الشك فيه فى استعادة ما نهب من أمواله. وانشر التقديرات المختلفة لحجم هذه الأموال المنهوبة، وأعلن أيضا أن الاتصال جار بسفاراتنا فى الخارج لكى تتصل بحكومات الدول الأجنبية لإخبارهم بعزمنا على استرداد هذه الأموال. بل ولا بأس من القبض على بعض صغار المسئولين الذين عرف عنهم بعض الأخطاء الصغيرة فى سبيل الاستيلاء على أموال الدولة أو أراضيها بغير وجه حق.

 

سوف تمر بضعة أسابيع فى مثل هذا، يمكن خلالها السماح بسفر كثيرين من المطلوب مصادرة أموالهم، وبتحويل أموالهم إلى أماكن آمنة، وبعد أن يتم ذلك يمكن الاعتماد على نسيان الناس لما قيل لهم فى البداية عن حجم الأموال المهربة، وقد ينشغلون بدلا من ذلك بالنقاش حول طريقة الإشراف على تصويت المصريين فى سفاراتنا بالخارج لضمان تمثيلهم تمثيلا صحيحا فى الانتخابات، حتى ينُسى تماما موضوع استعادة الأموال المهربة.

 

يمكن أيضا الاعتماد على نفس القاعدة (آفة حارتنا النسيان) لضمان اشتراك فلول العهد السابق فى الانتخابات الجديدة، رغم المطالبات المتعددة باستبعادهم فى الأيام الأولى للثورة، والوعد باتخاذ الإجراءات اللازمة لهذا الاستبعاد، مع تأجيل اتخاذها أسبوعا بعد أسبوع حتى يتم نسيان الأمر. ويمكن الاستفادة من هذه القاعدة أيضا فى موضوع محاكمة الرئيس المخلوع ورجاله.

 

رابعا ــ سك كلمات لا وجود لما يقابلها فى الواقع:

هناك بعض الكلمات أو المصطلحات التى لا يوجد مقابل لها فى الواقع، كالعفريت مثلا، ولكن تكرار استخدامها يجعل الناس يعتقدون أن لها وجودا حقيقيا، ومن ثم يمكن استخدامها لتفسير ظواهر مريبة ليس من المصلحة الكشف عن مدبريها الحقيقيين. من هذه الكلمات كلمة «الإرهابى» مثلا، التى شاع استخدامها بشدة فى العشرين سنة الأخيرة، وهى كلمة اخترعتها جهات لها مصلحة مؤكدة فى وقوع الأحداث «الإرهابية»، مع أنها دائمة الشكوى منها.

 

من ذلك أيضا اصطلاح «البلطجى»، الذى يقوم بأداء خدمات مفيدة جدا لأصحاب السلطة، بينما هم دائمو الشكوى منه، ويتظاهرون بأنهم يحاولون تعقبه والقبض عليه. فهنا أيضا، كل ما تحتاج إليه هو تكرار استخدام الكلمة لتبرير مختلف أنواع الاعتداء والتخريب، سواء ضد الأقباط، أو ضد ثوار ميدان التحرير، أو ضد الشرطة العسكرية.. إلخ. ومتى تكرر استخدام الكلمة بدرجة كافية، شاع الاعتقاد بوجود «البلطجية» بالفعل.

 

خامسا وأخيرا ــ يوجد ثلاثة أنواع من البشر:

يمكن تقسيم الناس إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول يتكون من أصحاب المبادىء المتمسكين بها، فيرفضون أى إغراء بالمال أو بالمنصب الرفيع للتخلى عنها. ونوع ثان هو العكس بالضبط، أشخاص لا مبادىء لهم على الإطلاق، وينحصر أملهم فى الحصول على المزيد من المال أو السلطة أو الاثنين معا، ومن ثم هم مستعدون لأن يقولوا شيئا اليوم وعكسه غدا، وأن يفعلوا كل ما يطلب منهم فى العهود المختلفة، رغم الاختلاف الشديد بين سياسة كل عهد عن العهود الأخرى، طالما أن ذلك يضمن لهم الاستمرار فى جمع المال أو القرب من السلطة.

 

النوع الأول يصلح لشغل المناصب المهمة فى السنوات الأولى للثورة، عندما يكون المطلوب اقتلاع نظام فاسد وترسيخ بعض المبادىء الجديدة، كما كان الحال، مثلا، فى السنوات الأولى التالية لثورة 1952 (تذكر مثلا أسماء فتحى رضوان وإسماعيل القبانى وعلى الجريتلى... إلخ) ولكن هذا النوع من الناس لا يصلح عندما تبدأ الثورة فى الانتكاس والتراجع، بل وتنقلب على نفسها، وتبدأ الأمور فى العودة إلى ما كانت عليه قبل الثورة. فى هذه الحالة يكون النوع الثانى من الناس (الذى لا يؤمن بأى مبادىء) مفيدا للغاية من وجهة نظر الحاكم. (كما كان الحال مثلا فى معظم سنوات السبعينيات ثم ابتداء من الثمانينيات وحتى قيام ثورة 25 يناير 2011).

 

ولكن هناك نوعا ثالثا من الناس يختلف حولهم الرأى فيما إذا كانوا من النوع الأول أو الثانى، إذ إن تاريخهم يشمل أعمالا يمكن اعتبارها من هذا الصنف أو ذاك. وقد يرجع ذلك إلى أنهم يحبون السلطة أو المال حبا جما، ولكنهم أيضا يحبون السمعة الطيبة، ومن ثم تجدهم فى حيرة تجعلهم يطبقون سياسات متعارضة، أو بالأحرى يسكتون على تطبيق سياسات متعارضة، ويحاولون محاولات يائسة لتبرير هذا التناقض لأنفسهم وللناس بلا جدوى.

 

هذا النوع من الناس مفيد جدا للحاكم فى فترات معينة، لا هى الفترات التى يجرى فيها تطبيق مبادىء الثورة ولا الفترات التالية لانتكاسها وبعد أن يستقر الحكم فى أيدى أصحاب الثورة المضادة. بل هم مفيدون على الأخص فى الفترات الانتقالية، بين هذه وتلك حين يكون المطلوب ليس تكريس مبادىء الثورة بل تصفيتها، وقبل أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل الثورة.

 

فى هذه الفترات الانتقالية، عليك إذن باستخدام هذا النوع الثالث من الناس، وهم موجودون للأسف بكثرة، وما عليك إلا أن تعرف جيدا كيف تميزهم عن النوعين الآخرين.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved