التعاقد مع الدولة من الباطن
أحمد عبدربه
آخر تحديث:
الأحد 15 ديسمبر 2013 - 9:30 ص
بتوقيت القاهرة
ليس مفهوما حتى الآن كيف يصنع القرار فى المحروسة، وربما لا يفهم صناع القرارات أنفسهم الأمر ذاته، فعملية صنع القرار ليست فقط غامضة ولكنها مختطفة من قبل أجهزة غير شفافة ولا مسئولة أمام الشعب، وفى ظل دستور معطل، وديمقراطية مغيبة، وفاشية مبطنة، وانتهازية سياسية لا مثيل لها، يكون من العبث محاولة ترشيد عملية صنع القرار أو حتى التساؤل عن ماهية صانعيها، وأقصى ما يمكن فعله هو مجرد التعليق على القرارات انتظارا للفرج.
لا يهم اذن أن نتوقف كثيرا عند وزراء ثوريين، أو هكذا نعتقد، يستبقون التحقيقات ويدافعون ويبررون القتل العشوائى للطلاب، رغم أن المتهم الأول هو ذلك الجهاز الذى ثاروا على ممارسته القمعية من أشهر قليلة، حتى إن شهرتهم بل وشرعيتهم الحقيقية بنيت على كفاحهم ضدها! كذلك فسيكون من قبيل تضييع الوقت أن تسأل لماذا يصدر وزراء ديمقراطيون، أو هكذا نعتقد، قوانين تفتقد إلى أدنى درجات الديمقراطية دون أى نقاش مجتمعى حقيقى يعوض غياب المؤسسات النيابية المنتخبة، ثم يصرون أن تطبيق هذه القوانين الظالمة بلا تراجع بدعوى أنها السبيل الوحيد لعودة هيبة الدولة، رغم أنهم وقتما كانوا معارضين وبنوا هالتهم الديمقراطية على رفض نفس هذه القوانين بحجة أنها تقيد حرية التعبير وتنتصر لبوليسية الدولة! أما العبث بعينه هو أن تسأل ما هو دور لجنة المسار الديمقراطى التى أنشئت بقرار من مجلس الوزراء وتحوى فى عضوياتها اثنين من وزراء الحكومة واثنين من مؤسسة الرئاسة فى ظل هذا الوضع المقلوب.
•••
أما وقد توقفنا عن الأسئلة التى لا طائل منها، فيحق لنا اذن أن نحاول فك التباس جزء من هذا المشهد لعلنا نفهم لما تسير الأمور من سيئ إلى أسوأ، ولماذا رغم إنهاء حكم وعزل الرئيس الذى فشل فى إدارة البلاد وساهم فى انقسامها منذ ما يقرب من نصف عام الآن لم يتحسن الوضع كثيرا، فالانقسامات قائمة، والعدالة غائبة، والصدام والدم مازال عنوان المرحلة؟
فى تقديرى أن السبب الرئيسى فى كل ذلك أن الأجهزة التى انقضت على حكم الرئيس السابق وجماعته لم تنقض حتما لتصحيح الأمور ولا لاستكمال أهداف الثورة كما ادعت، ولكنها انقضت لتهذيب وإصلاح كل الفاعلين الذين عبروا عن ثورة يناير، واجبارهم على دفع ثمن عملتهم السوداء والتى كادت تعيد هيكلة الدولة وتعيد تشكيل وعى المصريين الذى تم تأميمه منذ ثورة ١٩٥٢، ولأن الجماعة هى الفاعل السياسى الأبرز منذ ثورة يناير، ولأنها تمتعت بضيق الأفق والانتهازية والصلف الشديد فإن التخلص منها كان أمرا هينًا لأنها وحدت كل الأعداء فى خندق واحد.
•••
ولكن لأنه من الصعب أن تعلن الأجهزة التى تزعمت وقادت المسار منذ يوليو ٢٠١٣ وحتى الآن أنها لم تنقض فقط على الجماعة ولكنها انقضت أيضا على كل المكتسبات الثورية (التعددية الحزبية، حرية الرأى والتعبير، مساءلة السلطة التنفيذية، اشراك الشعب فى العملية السياسية... الخ)، فكانت أن قررت الاستعانة بوكلاء (ثوريين) يستطيعون القيام بتلك المهمة من الباطن حتى تتم عملية الانقضاض بهدوء وبأقل تكلفة سياسية ممكنة. وقد قامت الأجهزة المعنية باستخدام ثلاثة وكلاء كواجهة لعقد صفقات مع بعض الأحزاب السياسية والكيانات الثورية والشخصيات العامة لتوقيع عقد اللعبة السياسية الجديدة بقواعد مغايرة عن قواعد يناير وذلك حتى ترفع الحرج عن المتعاقدين الثوريين من ناحية، وحتى لا تظهر هى فى الصورة من ناحية أخرى للحفاظ على زخم حراك الجماهير فى يونيو حتى يبدو دوما ثوريا، رغم ان المقاول الرئيسى ومقاول الباطن والمتعاقدين يعلمون جميعا أبعاد اللعبة ويوافقون ضمنيا عليها ويتبقى فقط شكل العقد الجديد الذى يجب أن يتم اخراجه بحرفية لرفع الحرج عن الجميع.
أولا حركة تمرد: وبدون أى رتوش أو تجميل تحولت الحركة من قوى شبابية ثورية إلى مقاول الباطن الرئيسى الذى يتلقى طلبات الانضمام إلى عضوية اللعبة السياسية الجديدة، فلم أسمع فى حياتى عن حركة ثورية تتحول فى ٤٨ ساعة فقط (هى مهلة الانذار الأول من الفريق السيسى إلى الرئيس المعزول والقوى السياسية) إلى حركة نظامية تتوافق وبشدة مع النظام الحاكم، بحيث لا تستطيع تعريفها بعد ٣ يوليو هل هى حركة شبابية ثورية أم حزب سياسى مدلل من السلطة أم جهاز من أجهزة الدولة؟ قامت الأجهزة الدولاتية بذكاء باختطاف تمرد واستغلال قياداتها فى تمرير سياسات وتشكيل وعى عام جديد، فالحركة تتحدث عمن هو وطنى ومن هو ارهابى، تنظر للدولة الجديدة، تشكل تحالفا انتخابيا جديدا وتدعو الراغبين فى التعاقد من الباطن إلى الهرولة قبل رساء العطاء، تدافع عن المسار بشدة دون محاولة جادة أو حقيقة لانتقاده، تدافع بشدة عن خارطة الطريق التى أعلنت فى ٨ يوليو (الانتخابات البرلمانية قبل الرئاسية) رغم مخالفة ذلك لرغبات الجماهير التى أعطتها الزخم والقوة بحملة التوقيعات الشهيرة، ثم تعود للتراجع فجأة حينما ترغم الأجهزة الدولاتية (المقاول الرئيسى) فى تغيير الدفة وتحويلها إلى (الرئيس قبل البرلمان)، وفى كل الأحوال ما يرده المقاول الرئيسى توافق عليه تمرد بل وتقاتل من أجل تأكيد اتفاقه مع الشرعية ورغبات الجماهير، ولا نعرف كيف ولا متى حصلت الحركة على توكيل حصرى من الشعب لادعاء تمثيله دوما وربما للأبد.
ثانيا الثوريون الجدد: وهم مجموعة من الشخصيات الحزبية والعامة، عرف عنها الكفاح الحقيقى، تارة لصالح العمال، وتارة لصالح الطلبة، ظلت أسماؤها رنانة منذ ٢٠٠٤ وحتى الآن، كافحت ضد بطش دولة مبارك، وضد سوء إدارة المجلس العسكرى، وضد الفاشية الدينية للإخوان، ثم فجأة قررت فور دعوتها للدخول إلى اللعبة الجديدة بعد يوليو، لعب دور مقاول الباطن، فالمظاهرات أصبحت اثما، وحركات الطلاب والعمال ضد نفس أجهزة مبارك ومرسى تحولت إلى مؤامرات على الدولة، وهكذا كان الدخول إلى النظام الجديد أشبه بغرفة بلا باب للخروج، فإما أن تقبل بالقواعد الجديدة وتتلبس عباءة الدولة وخطابها وإما تدفع الثمن غاليا وإليكم فى البرادعى عبرة! وهكذا لم تعد أجهزة الدولة القمعية فى حاجة إلى الدفاع عن نفسها أو تبرير سياستها، فمقاولو الباطل من ثوار الأمس جاهزون لرفع الحرج وإمضاء التعاقد الجديد مع الراغبين للانضمام.
ثالثا الأجهزة الاعلامية والمنظمات الحقوقية والشخصيات العامة: فهؤلاء جميعا تم تأميمهم إلا من رحم ربى، فالمقاول الرئيسى لم يعد فى حاجة إلى قمع الإعلام أو مواجهة تقارير المنظمات الحقوقية أو الحيرة فى كيفية التعامل مع الشخصيات العامة ذات المواقف الثابتة بسهولة، فمن بين هؤلاء جميعا، تطوع البعض للمزايدة على أقرانه للحوز على رضا الدولة وتوقيع العقد من الباطن بدلا منها، فتلك صحيفة تزايد علنًا على منافسيها فإما القبول بالعقد الجديد أو الوصم بالانضمام إلى الطابور الخامس وتلك منظمة حقوقية تدافع عن حقوق الأجهزة الدولاتية، وحقوق رجال الدولة، وحقوق الأبنية والكبارى والشوارع دون حقوق المواطنين، ومن يحاول من أقرانها تغيير المعادلة يوصف فورا بالعمالة للخارج، وتلكم مجموعة من الشخصيات العامة، فهمت اللعبة ويبدو أنها أرهقت بحكم السن من الكفاح، فقررت التقاعد المريح، فبدلا من الاختفاء عن المشهد وقضاء ما تبقى من العمر بعيدا عن الأضواء قررت التعاقد مع الدولة من الباطن والدفاع عن سياستها وقراراتها بل وخطاياها وما كان محرما بالأمس أصبح حلالا صافيا اليوم، وإذا قرر أقرانهم عبثا ترشيد الرأى العام والوقوف ضد الدولة، قرر مقاولو الباطن تشويههم بالتعاون مع المقاول الرئيسى وكله فداء للعقد الجديد.
•••
وهكذا أصبح من ضرب العبث الحديث عن نظام سياسى بالمعنى المتعارف عليه، كما أصبح من قبيل تضييع الوقت أن نتساءل عن المعارضة أو مفهمومها، أو حتى أن نفهم من يحكم ولماذا بهذه الآليات، ما يحدث باختصار هو إعادة محاولة تأميم السياسة فى المحروسة، وعقد التأميم ليس فى يد حزب سياسى واحد، ولا فى يد تيار سياسى بعينه، ولكنه فى يد أجهزة الدولة العميقة التى تفصل بنوده الجديدة الآن من خلال دستور جديد وقوانين جديدة تشكل قواعد العقد التأميمى، وأنت اذن مدعو إما الى توقيع العقد من الباطن عن طريق الوكلاء السابقين أو مغادرة المشهد برمته، أما إذا قررت (لا سمح الله)، معارضة بنود العقد الجديد أو حتى مناقشته، فعليك دفع الثمن المؤلم وحيدا، وهو لمن لا يعرف، ثمن ثورتك فى يناير.