فى أثر النيل
نبيل الهادي
آخر تحديث:
الأحد 15 ديسمبر 2019 - 9:40 م
بتوقيت القاهرة
تبدأ الدراسة فى جامعاتنا مع بداية الخريف الذى تتساقط فيه الأوراق، وتنكشف فيه أغصان الأشجار، وتزورنا أحيانا بعض الرياح الباردة.. وبالرغم من أنه يبدو فعليا غير راغب بالقيام بهذه الزيارة السنوية بعد، تاركا الصيف يفعل بنا ما يشاء، وداعما هؤلاء المنادين بأن التغير المناخى أصبح قاب قوسين أو أدنى. ولأنه فصل التقلب والتحول يكون الأنسب استكشاف تقلبات وتحولات أخرى فى عمراننا وطبيعتنا وخاصة نهر النيل، خاصة إذا كان ذلك بصحبة ثمانية عشر من الطالبات والطلاب الذين يتطلعون لمعرفة ما خفى عنهم.
من خمسة آلاف عام لم يكن نهر النيل فى موقعه الذى نعرفه اليوم. فقد كان فى موقع يبعد للغرب أكثر من ثلاثة كيلومترات فى مقابل منطقة سقارة طبقا لأبحاث لبعض الأثريين الأجانب، والتى تثبت تلك التغيرات الكبرى فى مجرى النيل. ولكن دفعتنى شكوكى لاستشارة ونقاش زميل لى وأحد أساتذة الرى والذى استبعد أن تكون بداية المدينة فى شرق النيل لأن معنى ذلك أن النيل قد عبر المدينة فى لحظة ما من تاريخ المدينة. ولكن طبقا لمدير منطقة ميت رهينة الأثرية فإن هناك دلائل أثرية أن النيل كان يصل لمكان مصرف المريوطية اليوم وربما يبرر ذلك التغير الكبير فى مجرى النيل وعلاقته بالمدينة على مدى حوالى ثلاثة آلاف عام هى تقريبا عمر المدينة والتسمية التى يطلقها عليها... وهى «المدينة المتزحزحة».
فى أول خطوة لنا فى تتبع النيل فى القاهرة كان من الواضح أن تاريخ الطبيعة فى المدينة لا يزال يدعونا للمزيد من البحث والمعرفة ولا أشك فى أن ذلك سيكون مفيدا لمستقبل حياتنا فى القاهرة.
استفزنى كما فى كل مرة أزور فيها هذا المكان هذا الفصل الذى يكاد يكون قاطعا بين المنطقة التى يسمح فيها للسائحات والسائحين بالمرور والزيارة وخاصة حول متحف ميت رهينة وبين حياة الناس اليومية فى ميت رهينة. فأنت ترى المصرف الزراعى الملاصق للمتحف مغطى ومزروع لمسافة حوالى أقل من مائة متر، بينما هو بعد ذلك وفى قلب المنطقة السكنية بميت رهينة مغطى أيضا ولكن بكم هائل من الزبالة وقد رأى البعض منا بعض الفئران تكاد تلهو وتمرح.
هل فعلا نستطيع أن نفصل ماضينا عن حاضرنا بداعى تأمين السياح أو الحفاظ على الآثار؟ وبالرغم من تفهمى للأسباب فهل هناك ما يعادل ما نخسره من تلوث يملأ حياة الناس وصحتهم وما نخسره من تعاطفهم وإحساسهم بأنهم ينتمون إلى نفس الأرض التى تعامل الآخرين بصورة لائقة بينما هم فيما هم فيه.
فى الأربعاء التالى وفى زيارة لمدينة الشمس أون والواقعة الآن بالقرب من محطة مترو المطرية تناقشنا عن المدينة التى زارها وسكن فيها أفلاطون لبعض الوقت كما زارها وتعلم فيها آخرون. حدثت طلبتى عن أفرع النيل القديمة أو خاصة عن فرع النيل المسمى بالفرع البيلوزى والذى فى الغالب كان له علاقة بموقع قناة الاسماعيلية التى حفرت فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر.
وأشرت أيضا لكيف تجاهلت البعثة الأجنبية الأثرية التى قامت بالحفريات هناك لوضع وموقع النيل فى وقت بناء مدينة الشمس، كما أشرت أيضا لتجاهل المحيط العمرانى الحالى وكأن بالإمكان نسيانه أو عدم رؤيته. وكيف يمكن ذلك وهو مشغول فى جزء منه بسيارات عديدة فى انتظار مالكيها وفى جزء آخر بملاه رخيصة وفى جزء ثالث بمصطبة من القمامة ومخلفات البناء قد تعلو عن العشرة أمتار. كان ذلك مرعبا بالنسبة لى شخصيا ولم أتمكن من تصور كيف يمكن لمسئول فى الآثار أو السياحة أن يتخيل قدوم أى زوار لهذه المنطقة.
فى الأربعاء الذى يليه التقيت مع طلبتى فى محطة المترو كما نفعل كل أسبوع وخرجنا وسرنا فى محاذاة النهر وعبرنا سيالة الروضة تحت ذلك الكوبرى الخشبى فى الظاهر فقط وذهبنا لزيارة مقياس النيل بالروضة. شرحت بإيجاز مدى ارتباط الحضارة فى مصر بالنيل وكيف أن المصريين كان لديهم قياسات موثقة للنيل منذ القدم كما يوضح د. رشدى سعيد فى كتابه العظيم عن نهر النيل، ويوضح الرسم البيانى الذى يشمله الكتاب كيف ازدهرت الحياة مع الفيضانات الجيدة وكيف أن الفترات التى شهدت الفيضانات المنخفضة كانت ذات تأثير واضح على الحياة فى مصر، وربما كانت أحد العوامل التى أدت إلى فترات ما يسمى بالانحطاط.
أكملنا المسير عبر ما كان فى العصور الوسطى الحد الشرقى للنيل وعبرنا المترو لزيارة حصن بابليون حيث تاريخ المكان الذى يعود لما قبل تأسيس الرومان للحصن وشقهم لقناة تراجان والتى لو مددناها على خط مستقيم فى الخريطة لكان جزء منها هو الخليج المصرى خاصة بدءا من ميدان السيدة كما نعرفه الآن ويمتد شمالا حتى يلاقى مكان ترعة الاسماعيلية اليوم. وأوضحت أيضا كيف أن المنطقة تنسب لأهل ما بين النهرين ثم البطالمة الرومان ثم التحول الكبير للمسيحية فى مصر والتى بعدها تحول المكان من معسكر رومانى وميناء إلى مكان للشعب فى أوائل العصر القبطى فى مصر. ثم زرنا المتحف القبطى وانتهينا بجلسة خارجية فيه فيما يحيط بنا عمارة تبدو عربية بناها قبطى فى مكان أسس على جدران وحوائط رومانية، وكان هذا ختاما جيدا لتتبع النيل فى الفترات قبل العربية فى القاهرة، يعكس كيف أن التنوع والتراكم الحضارى الذى كان النيل أيضا أحد أسبابه هو ما أسهم فى جعل تاريخنا وما يمكن أن يدعم حاضرنا ومستقبلنا.