عن مغزى تصريحات بايدن الأخيرة
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الجمعة 15 ديسمبر 2023 - 6:50 م
بتوقيت القاهرة
كانت التصريحات الأخيرة للرئيس الأمريكى جو بايدن بشأن الحرب فى غزة لافتة. لم تكن فقط الإشارة إلى تورط إسرائيل فى هجمات عشوائية على القطاع هى المفاجئة بالمعايير الأمريكية، بل أيضا التدخل المباشر فى التوازنات السياسية الإسرائيلية بمطالبة رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، بتغيير حكومته والابتعاد عن «العناصر المتطرفة»، والحديث عن خطر فقدان إسرائيل للدعم الدولى والتشديد على اقتراب افتقادها للمصداقية الأخلاقية عالميا كانت عناصر جديدة فى خطاب ساكن البيت الأبيض. فما الذى حدث؟
• • •
أولا، لم يكن خافيا على من يتابع السياسة الأمريكية كون الخلافات بين إدارة بايدن والحكومة الإسرائيلية قد دخلت فى طور التصاعد منذ أسابيع بسبب الكارثة الإنسانية التى تنزلها الحرب بأهل غزة والارتفاع المهول فى أعداد الضحايا المدنيين من قتلى وجرحى، وبسبب امتناع حكومة نتنياهو عن تسهيل دخول المساعدات الإنسانية ورفضها لتحديد مناطق آمنة داخل القطاع تحمى الناس من دماء ودمار الحرب، وبسبب تردد نتنياهو فى الانفتاح على مفاوضات هدنة جديدة تتوسط بها مصر ومعها قطر وبدعم أمريكى.
ثانيا، لم تعد أيضا خافية تلك الخلافات داخل إدارة بايدن بين أنصار الدعم غير المشروط لإسرائيل وبين من يحذرون من تداعيات ذلك على المجتمع الأمريكى وتداعياته على علاقات الولايات المتحدة بالحلفاء بين الدول العربية والإسلامية وعلى صورتها فى العالم. وقد مثل استخدام واشنطن لحق النقض (الفيتو) فى مجلس الأمن لمنع صدور قرار يقضى بإنهاء الحرب ووقف إطلاق النار النقطة الزمنية الأكثر حدة فى دفع تلك الخلافات إلى الواجهة. وعلى الرغم من أن أنصار الدعم غير المشروط داخل الإدارة نجحوا فى فرض انحيازهم على السلوك التصويتى لواشنطن فى مجلس الأمن ولم تتغير إلى اليوم سيطرتهم على الواجهة العريضة للسياسة الأمريكية الرافضة لوقف إطلاق النار، إلا أن الأصوات الأخرى فى البيت الأبيض (تحديدا فى مجلس الأمن القومى) وفى وزارة الخارجية وفى وزارة الدفاع سعت بعد فيتو مجلس الأمن إلى إحداث شىء من التوازن العلنى فى الموقف الرسمى بدفع بايدن إلى الحديث عن الهجمات العشوائية والضحايا المدنيين والدعم الدولى المتراجع والمصداقية الأخلاقية المهددة دون أن يعنى ذلك انتقالا سياسيا إلى موقف آخر يضغط على إسرائيل لإنهاء الحرب.
• • •
ثالثا، يعبر بايدن بالعناصر المستحدثة فى خطابه العلنى بشأن الحرب فى غزة والتوازنات السياسية داخل إسرائيل عن رغبة الإدارة الأمريكية فى التأثير على مجريات لعبة الحكم والمعارضة فى الدولة العبرية. تتوقع واشنطن أن تسفر الحرب بعد وصولها إلى خط النهاية عن تفجر الصراع السياسى فى تل أبيب وأن تجرى انتخابات برلمانية مبكرة إن فى سياق احتجاجات شعبية واسعة تحمل بنيامين نتنياهو وحكومته مسئولية الإخفاق فى منع هجمات حماس فى ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ وفى إعطاء الأولوية لتحرير الرهائن أثناء أسابيع الحرب الثقيلة أو فى سياق التحقيق القضائى المتوقع فيما حدث فى ٧ أكتوبر وتحميل رئيس الوزراء المسئولية السياسية عنه ودفعه إلى الاستقالة. هنا، تريد واشنطن ومن اليوم أن تظهر رفضها لسياسات اليمين الدينى واليمين المتطرف الذى يطالب بإعادة احتلال غزة ويتبنى التوسع فى النشاط الاستيطانى فى الضفة الغربية والقدس الشرقية ولا يقبل بتسوية سلمية على أساس حل الدولتين. تريد واشنطن أيضا ومن خلال تصريحات بايدن أن ترسل إشارة إلى الداخل الإسرائيلى مؤداها أن دعم حكومة نتنياهو عسكريا وماليا وسياسيا والاستمرار فى تقديم الغطاء الدبلوماسى لها عالميا وحمايتها من المساءلة الدولية جميعها أمور لا تعنى الوقوف فى صف حكومة يمينية متطرفة جل اختياراتها تتعارض مع أولويات الولايات المتحدة المستندة إلى رفض إعادة احتلال غزة وضرورة وقف النشاط الاستيطانى وحتمية العودة إلى التفاوض بين إسرائيل وفلسطين. وفى إشارة واشنطن رسائل إلى شخصيات مثل بينى جانتس ونفتالى بينيت ويائير لابيد، وهم فى المجمل أقل تطرفا من حلفاء نتنياهو أمثال بن غفير وسموتريتش، بكون الحليف الأهم لإسرائيل على استعداد لدعمهم سياسيا لتنحية نتنياهو ومن معه من صدارة المشهد السياسى.
رابعا، تدرك إدارة بايدن بأجنحتها المختلفة أن الحرب والمرجح أن تتوقف بشكل أو آخر خلال أسابيع معدودة من الآن تحمل فى طياتها اليوم وغدا بعد وصولها إلى خط النهاية الكثير والكثير من التحديات التى تحتاج واشنطن لكى تديرها دعما من الحلفاء بين الدول العربية والإسلامية. اليوم، على سبيل المثال، يتطور تهديد الحوثيين للملاحة الدولية فى البحر الأحمر على نحو يلزم الولايات المتحدة باتخاذ إجراءات للاحتواء والتأمين. والأفضل للقوة العظمى هنا أن تتعاون فى هذا الصدد مع القوى البحرية العربية ومصر فى مقدمتها وأن لا تندفع إلى أعمال عسكرية انفرادية تزيد من الأضرار التى لحقت بصورتها فى العالم العربى والإسلامى بسبب الانحياز لإسرائيل أو تخاطر بتوسيع النطاق الإقليمى لحرب غزة وهو ما لا يحتمله أحد. تدرك واشنطن حقيقة احتياجها إلى المساندة الفلسطينية والعربية والإسلامية وهى تفكر فى ترتيبات اليوم التالى فى غزة وعموم الأراضى المحتلة. تريد واشنطن أن يدير الفلسطينيون غزة وأن يتم الربط فيما خص شئون الحكم بينها وبين الضفة والقدس، وتريد أيضا العودة إلى إطار تفاوضى يفضى إلى حل نهائى على أساس دولتين إسرائيلية وفلسطينية. وفى السياقين، ستجد واشنطن دعما فلسطينيا وعربيا وإسلاميا شريطة ابتعادها عن سياسات الانحياز الأعمى لإسرائيل وإحداثها لشىء من التوازن فى مواقفها.
وليست تصريحات بايدن الأخيرة سوى دليل على ذلك، شأنها شأن ما رشح عن زيارة مستشار الأمن القومى جيك سوليفان لإسرائيل وفلسطين فى اليومين الماضيين.