مسلم وقبطى
جلال أمين
آخر تحديث:
السبت 16 يناير 2010 - 10:27 ص
بتوقيت القاهرة
لى صديق تعرفت عليه منذ خمسين عاما، عندما جاء إلى لندن ليلتحق بنفس الكلية التى كنت أدرس بها، ثم تزاملنا بعد ذلك فى العمل، وأصبح من أحب أصدقائى إلىّ.
لم ألاحظ قط، منذ تعرفت عليه لأول مرة، أن اختلاف دينه عن دينى، له أى أثر فى تصرفاته إزائى، أو إزاء أصدقائنا المشتركين من المسلمين، كما لم يكن له أى أثر فى تصرفاتى نحوه. كان كل منا ينظر إلى اختلافنا فى الدين مثلما ننظر مثلا إلى اختلافنا فى الطول والقصر، أو فى حجم الأنف أو الأذن، لا علاقة له بالمرة بتقييم كل منا للآخر.
كان يمتاز عنا جميعا برقته البالغة. يظهر ذلك فيما يبدو عليه من فرح بلقائك، وباستعداده للتعبير الصريح عن هذا الفرح، كما لاحظت عاطفيته الشديدة فى معاملته لأخته كلما جاءت إلى لندن لزيارته.
كان قليل الكلام ولكنه مستمع ممتاز (ويبدو أننا جميعا نحب المستمع الجيد أكثر مما نحب المتكلم الجيد)، وكان يدخل السرور على قلوبنا بضحكته المجلجلة إذا صدر من أحدنا كلام مضحك، كما كان أكثرنا صبرا على من كان كثير الكلام مثلى. لهذا وغيره من الأسباب لم تكن صحبتنا تكتمل إلا بوجوده.
أدهشتنى معرفته الواسعة بالشعر العربى، وعشقه لشعر المتنبى عشقا، وقدرته على إلقاء شعره بنطق صحيح وجميل. لم أكن أتوقع هذا من رجل متخصص فى الاقتصاد، إذ لم ألاحظ على معظم من عرفت من الاقتصاديين أى حب أو تقدير للأدب من أى نوع كان صديقى هذا استثناء فى هذا الأمر أيضا.
كنا فى لندن فى سنوات الناصرية، وكان معظمنا متحمسا بشدة لسياسة عبد الناصر الاقتصادية وسياسته الخارجية، بما فى ذلك فكرة القومية العربية. وكان صديقى هذا ناصريا متحمسا أيضا، ولا أذكر أن حماسنا للقومية العربية والوحدة كان يسبب له أى ضيق. لم أجد أى غرابة فى هذا فى ذلك الوقت، فعندما كنت عضوا فى حزب البعث فى الخمسينيات، كان من زملائى فى الحزب أقباط ومسيحيون من مصر ومن الدول العربية الأخرى، وكانوا مؤمنين بالقومية العربية وبمزايا الوحدة. بل كان رئيس حزب البعث نفسه وصاحب فكرته، الذى أحببناه كلنا حبا جما ووثقنا بصدقه، مسيحيا سوريا (ميشيل عفلق). وكان الأستاذ ميشيل (كما كنا نسميه) يؤمن إيمانا راسخا بأنه لا نهضة للعرب إلا بتحقيق الوحدة، واختار كشعار للحزب عبارة (أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة).
لم يكن هذا بالطبع موقف جميع الناشطين السياسيين من الأقباط، حتى خلال الحقبة الناصرية. فالدكتور لويس عوض مثلا، كان لا يخفى بالمرة رفضه لفكرة القومية العربية، إذ كان شعوره الوطنى وحبه لأمته محدودا بالحدود السياسية لمصر وحدها. ولكن لويس عوض لم يكن يرى لبلده طريقا للنهضة إلا فى التغريب، ومن ثم كان متحمسا لاقتفاء أثر أوروبا خطوة بخطوة، ومن كان هذا رأيه لم يكن ليتحمس كثيرا للوحدة العربية، مثلما كنا نحن الذين نطمح إلى تحقيق النهضة بطريقة تستلهم التراث ولا تتنكر له.
مع مرور الزمن منذ السبعينيات، حدث ما كان لابد أن يصيب أصدقاءنا الأقباط بكثير من خيبة الأمل والقنوط. فمع تكرار أحداث ما يسمى بـ«الفتنة الطائفية». كان من الطبيعى جدا، ومن المفهوم تماما أن يتوجس الأقباط خشية من أى دعوة «لاستلهام التراث»، وأن يزداد خوفهم من أن تؤدى الوحدة العربية إلى ترسيخ فكرة «الأقلية والأغلبية»، وإلى تعميق شعورهم بالاغتراب بدلا من إزالته. هكذا فسرت ذلك التغير الذى لحق بموقف صديقى من الخوض معى فى أى مناقشة سياسية لها علاقة من قريب أو بعيد بالقومية العربية أو الوحدة، وكأنه يخشى من أن يؤثر الاختلاف فى السياسة على صداقة وطيدة عمرها خمسون عاما.
كان هذا واحدا من أسباب كثيرة لشعورى بالصدمة والإحباط عندما سمعت بخبر الاعتداء على الأقباط، ومقتل ستة منهم فى نجع حمادى فى الأسبوع الماضى. كان الخبر مأساويا من كل ناحية، خاصة أنه حدث أثناء خروج الأقباط من كنيستهم، وفى ليلة عيدهم. تخيلت شعور صديقى لدى سماعه بالخبر، الذى لابد أن يزيد شعوره بالاغتراب عمقا. كنت واثقا من أنه لن يفتح الموضوع معى، كما لا أجرؤ أنا أيضا على فتحه. كنت واثقا أيضا من أن ما حدث لا يمكن أن يترك أثرا على شعور كل منا إزاء الآخر. ولكن كم هو من المحزن ما أصاب به هذا الحادث أملنا فى تحقيق نهضة لهذا البلد، سواء قامت هذه النهضة على استلهام التراث أو على التغريب.