مصر بحاجة لرئيس إضافى
معتز بالله عبد الفتاح
آخر تحديث:
السبت 16 يناير 2010 - 10:15 ص
بتوقيت القاهرة
مصر تعيش فى حالة «حكومة تسيير أعمال» منذ نحو ربع قرن انتظارا لأن تأتى قيادة قادرة على أن تنقل الإدارة الحكومية ومؤسسات المجتمع نقلة جادة نحو أفق أفضل.
وهذا لن يحدث إلا ببناء الإنسان المصرى جنبا إلى جنب مع بناء البنية التحتية. وعلى هذا، فنحن بحاجة لرئيس آخر، ليس بدلا من ولكن، يضاف لرئيس الجمهورية الحالى. فليستمر الرئيس مبارك فى رئاسة جمهورية البنية التحتية، التى لا أعتقد أننا نجحنا فى تحقيق المأمول منه فيها، ولنعين رئيسا آخر للتنمية الإنسانية. ومصدر كلامى هذا هو ما أراه يحدث أمامى من انكماش الهوية الوطنية لمصر وتراجع مكانتها بين العرب بل وداخل مصر سواء لأسباب سياسية أو اقتصادية أو طائفية. إن المسئولين المصريين يتحدثون بنفس منطق الرئيس مبارك فى خطاباته المختلفة عن زيادة الصادرات وتضاعف عدد التليفونات، وتحسن أحوال الصرف الصحى، واطراد أعداد الكبارى والأنفاق، وعن الإنجازات فى مجال البنية التحتية وأنه عنده 70 مليون مصرى مطلوب منه إنه «يأكلهم كل يوم».
والأمر لا يقتصر على رئيس جمهورية إضافى، بل ربما نحن بحاجة لحكومة موازية للحكومة الحالية تكون أكثر قدرة على التواصل مع الإنسان المصرى واحترام حقه فى التفكير وفى التعرف على أسس اتخاذ قراراته. أتذكر مرة أن رئيس الوزراء الحالى انتقد، فى حوار على شاشة التليفزيون المصرى، بعض سلوكيات المصريين مثل إسرافهم فى استخدام المياه فى غسل السيارات والرش أمام البيوت أو فى الإنجاب بمعدلات عالية. وأوضح أنه إذا كان هذا هو الفهم السائد عند السيد رئيس الوزراء، فإن التنمية الحقيقية فى مصر تجعلنا بحاجة لرئيس وزراء آخر يبنى الإنسان المصرى بالإضافة لرئيس الوزراء الحالى الذى ينشغل أكثر بالبنية التحتية. فالقضية ليست فى إدارة أبنية مصر، المعضلة هى تنمية وتثقيف وتوعية الإنسان المصرى، وهو ما جعلنى أتحدث فى أكثر من مقال سابق عن «الوظيفة الأخلاقية للدولة» وعن أن «بناء المصداقية أهم من التعديلات الدستورية»، لتؤكد أن المصرى حى يرزق يملك مقومات الحياة لمن يستطيع أن يجمع أجزاءها ويعيد توجيهها.
إن الكثير من المسئولين المصريين أقرب إلى «صنايعية»، كما وصف نفسه أحدهم، يفعل ما يملى عليه إن بناء أو هدما، والكثير منهم يهوى اتخاذ القرارات المتعجلة وصياغة القوانين الهادمة للهدف المعلن منها والرهان على أن الإنسان المصرى غافل أو تافه أو إمعة. إنهم منا بحق لكنهم ليسوا أفضلنا يقينا. إن الأمم المتحدة أطلقت على عملية بناء هذا المناخ الملائم للتنمية الحقيقية تعبير (Building Trust in Government) أى بناء الثقة فى الحكومة. وحتى يحدث هذا فأنا أقترح بأن يكون هناك رئيسان للدولة: واحد يهتم ببناء الإنسان المصرى والآخر يهتم ببناء الكبارى وحفر الأنفاق ومد التليفونات بدلا من حالة التقدم المظهرى الذى يخفى وراءه الكثير من مظاهر التخلف الهيكلى التى نعيشها كما يقول سمير أمين. أحدهما يهتم بتعليم المصريين ألا يسرفوا فى استخدام المياه والآخر يهتم بمد مواسير المياه والمجارى تحت الأرض. واحد يعلم المصريين ألا يلقوا الزبالة فى الشارع، والآخر يتعاقد مع شركات إسبانية وفرنسية كى ترفع الزبالة من الأماكن المخصصة لها، واحد يقبض على مثيرى الفتنة الطائفية والآخر يربى الإنسان المصرى على أن «الدين لله والوطن للجميع». وبالمناسبة لن ينجح الثانى إلا إذا نجح الأول، ولن ينجح الأول إلا إذا نجح الثانى.
فلا انفصال بين زيادة أعداد السيارات فى الشوارع وارتفاع كفاءة قائديها. فالقضية الملحة ليست فى المظاهر الشكلية للتقدم مثل وجود تليفونات أكثر، ولكن فيم يتحدث المصريون؟ وما القضايا التى تشغلهم؟ كما أنه من المنطقى أن يكون عدد الكبارى فى اطراد لكن ما معنى أن يكون ضحايا المصريين من حوادث الطرق فى السنة أكثر من ضحايا الفلسطينيين من القصف الإسرائيلى المتكرر؟! ولا شك أن المرء يكون سعيدا حين يفتح الحنفية ويجد ماء متى تيسر له ذلك، لكن المعضلة أن المصريين يمكن أن يفتحوا الحنفية ولا يكترثون بإغلاقها.
نحن نبنى عددا أكبر من المدارس لنواجه الزيادة السكانية. لكن سؤالى: لماذا لا نبنى الإنسان المصرى الذى يكافح هو بذاته الزيادة السكانية ويساهم هو بذاته فى بناء المدارس؟ الحكومة تعتقد أن الشعب المصرى هو المنافس الذى تتحرك ضده لأنها لم تنجح أن تكسبه فى صفها، وأن تجعل قضاياها قضيته. من غير المهم أن يعمل الوزير أضعاف ما يعمل من وجهة نظرى، لكن المهارة الحقيقية؛ كيف ينجح الوزير فى أن يجعل العاملين فى وزارته يعملون أضعاف ما يعملون ويعطى هو لهم القدوة؟ هذه طريقة مختلفة فى التفكير عن تلك السائدة عند السادة المسئولين. فهم كحال الأب الذى يقوم بإعادة ترتيب المنزل مع كل مرة يقدم فيها الأطفال على العبث بمكوناته لأن لديهم سلوكيات خاطئة، وغالبا ما يلعنهم فى سره لأنهم غير ملتزمين بما يراه صوابا. ماذا لو نجح الأب فى تربية أولاده على أن يكونوا مسئولين عن أفعالهم على نحو يجعلهم لا يعبثون بلا إحساس بالمسئولية أو يصلحون ما يفسدون؟ ومن هنا تأتى أهمية التربية على المواطنة، أى التربية على قيم المسئولية المشتركة بين الحاكم والمحكوم.
وكى أوضح ما أقصد سأناقش ثلاثة أمثلة تستدعيها ذاكرتى عساها توضح فكرتى:
1ــ قال أحد مدربى كرة القدم السابقين، ولا أتذكر اسمه، بعد أن فر من تدريب أحد الناديين الكبيرين عن مصر: «عندكم أحدث عربيات العالم، لكنكم ما بتعرفوش تسوقوا لأنكم ما عندكم أخلاقيات القيادة السليمة». حقا مصر فيها سيارات أكثر لكن فيها حوادث أكثر وعادم سيارات أكثر وزحمة أكثر واختناقات مرورية أكثر. لأننا لم نهتم بتربية الإنسان الذى هو فى مقعد القيادة على أن يعرف كيف يقود سيارته. إن الاعتماد على الاستدلال بالتقدم باستخدام أرقام البنية التحتية يعنى خداع بسطاء العقول وهؤلاء نحن لسنا بحاجة لخداعهم لأنهم أقيلوا فاستقالوا فخرجوا من الحسبة السياسية بالفعل.
2ــ وجدت زوجتى ذات مرة تجبر ابنتى على كتابة عبارة «النظافة من الإيمان» كواحد من دروس كتاب الصف الرابع الابتدائى، فسألت ابنتى عن معنى ما تكتب فوجدتها لا تعرفه، هى فقط تنقل ما هو مكتوب فى أول السطر، فما كان منى إلا أن قررت أن أعلم ابنتى معنى هذه العبارة فشرحت لها ما استطعت، وبعد أن انتهيت من توضيح أن الإنسان المؤمن يكون نظيفا. وأما وإنها عندها معلومة سابقة أن المصريين مؤمنون (وهى كلمة تستخدم بالتبادل مع كلمة متدينين) فقد سألتنى سؤالا قاتلا باللغة الإنجليزية: Is that true? بمعنى هل هذا حقيقى؟ فسألتها ما الذى تقصده، فقالت إنها عاشت فى مصر سنتين ووجدت المصريين مؤمنين (أى متدينين بمعاييرنا) لكنهم لا يتصفون بالنظافة. ففى عقلها هناك معلومات غير متسقة: إما أن النظافة ليست من الإيمان، وهنا كذبت وزارة التربية والتعليم، أو أن المصريين غير مؤمنين، وهنا كذبت المعلومة التى كنا نرددها لها من قبل. لقد داهمتنى بما لم أكن أتوقع. فقالت: هنا فى أمريكا الناس لا يتوضئون لكنهم نظيفون جدا ولا أحد يلقى الزبالة فى الشارع ويحترمون إشارات المرور وغيرها. فطلبت منها هدنة للتفكير للرد على سؤالها ذلك بعيدا عن الإجابات الكثيرة التى طالما رددناها، وواضح أنها لم تغير الكثير من تكويننا.
3ــ فى واحدة من ندوات كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وكنت حينذاك معيدا فى الكلية، استضافت الكلية وزير التعليم الذى تحدث عن جهود الوزارة فى بناء المدارس ومواجهة الدروس الخصوصية وإيفاد المدرسين للخارج، وقد طلبت الكلمة للتعليق. وكان مما قلت إن المهمة الأولى لوزارة التربية والتعليم هى أن تخرج لنا طالبا يحب مصر أولا، حريص عليها ومحب لمصلحتها مقتنع بأن «الأفضل فى أى مجال هو الأولى بأن يتقدم فيه» من أجل خدمة الوطن. لكن ماذا تستفيد مصر من أن يخرج من مدارسها عباقرة فى الكيمياء والفيزياء وغيرهما ويهرولون مسرعين خارجها أول ما تأتيهم فرصة للرحيل عنها غير مهتمين حتى أن يرتبطوا بها أو أن يحرصوا على نقل ما تعلموه فى الخارج إليها؟ فما كان من إجابة، لأن مسئوليته كما فهمها ليست فى الاستفادة من الإنسان المصرى، وإنما فى بناء المدارس ومحاربة الدروس الخصوصية دون النفاذ لما هو أكثر أهمية وهو تغيير نمط تفكير الطالب، بل والمواطن، المصرى.
إن ثقافة الإنسان المصرى ليست معطى مثل الموقع الجغرافى، لا نملك حيالها إلا التسليم بها والتعايش معها وإنما هى واحدة من أدوات التقدم إن استطعنا أن نعيد تشكيلها وتوجيهها، أو واحدة من أسباب التخلف أن جعلنا منها عذرا للاهتمام ببناء المدارس دون الاهتمام ببناء الطالب، بتعبيد الطرق دون الاهتمام بتربية قائد السيارة على قيادتها، بمد مواسير المياه دون تربية المواطن على حسن استغلاله لها. إن المصرى مستقيل من الحياة العامة ينظر لمصر كبقرة حلوب، الأشطر يحلبها أكثر.
من يستطيع أن يعيده للوطن ويعيد الوطن إليه؟