المواطنة المصرية.. مسارها ومستقبلها

سمير مرقس
سمير مرقس

آخر تحديث: الإثنين 16 يناير 2012 - 9:25 ص بتوقيت القاهرة

فى غمرة العملية السياسية التى تشهدها مصر والتى تتجلى فى الانتخابات البرلمانية إحدى مراحل خارطة الطريق السياسية التى تم تنفيذها فى ظل حراك شبابى شعبى لم يهدأ من طرف، تواجهه قوة مؤسسية مادية ومعنوية من على الطرف الآخر، وهو ما وصفناه من قبل «بصراع الشرعيات: الميدان والبرلمان والعنفوان». يصدر كتاب: «المواطنة المصرية: حركة المحكومين نحو المساواة والمشاركة»، للراحل العلامة الفقيه القانونى، والمؤرخ، والمثقف الموسوعى وليم سليمان قلادة (1924 1999). الكتاب وإن تأخر صدوره، لاعتبارات تم شرحها فى مقدمة الكتاب، إلا أنه وكما ورد فى هذه المقدمة أنه فى «كل تأخير خير». فالكتاب (ومن خلال 450 صفحة من القطع الكبير) يتناول المسيرة النضالية للمصريين عبر التاريخ من أجل اختراق حاجز الحكم والسلطة وبلوغ المواطنة فى أجل ملامحه من حيث المساواة والمشاركة.. يسبق المسار التاريخى بعض المبادئ الدستورية التى وضعها المؤرخ الكبير كإطار عام لدراسته التاريخية.. فى ظنى أن الكتاب يحمل الكثير الذى يمكن أن يثرى نقاشاتنا حول نضال المصريين وما يستحقونه من جهة، وحول نضالنا الدستورى من جهة أخرى، ويضىء لنا بعض الإضاءات التى تنفع فى الجدلية الصراعية الحالية.. كيف؟

 

المواطنة: اختراق المحكومين لحاجز السلطة

 

يبدأ قلادة كتابه بمقولة تشير إلى أنه «تتبدى فى كل المجتمعات ظاهرة أساسية دائمة: أولا: ثمة الحكام الذين يفرضون إرادتهم على الآخرين ولديهم القدرة على ذلك. وثانيا: المحكومون الذين يكونون فى موقع الطاعة. وهنا يثير الكاتب سؤاله الرئيس: «هل هذه العلاقة السياسية هى مجرد واقعة مادية بسيطة قوامها الإجبار. الحاكم فيها منفصل عن الشعب، يأمره من خارج الجماعة، ويتحمل المحكومون ذلك كقضاء محتوم دون فرصة لفهم ما وراء هذا الموقف،أو المشاركة فى صنعه، بل يكون سبب قدرة الحاكم عجز المحكومين.. وبذلك تؤول العلاقة السياسية إلى مجرد موقف بدائى طرفاه القوة القادرة والضعف العاجز، الأمر من جانب والطاعة من جانب آخر».

 

 يرفض الكاتب هذا المنطق ويقول إن العلاقة السياسية لا تكون مقبولة «إلا فى إطار يضم الحكام والمحكومين ويربطهما بمفهوم يتجاوزهما معا وإليه يكون ولاؤهما». وهذا يعنى أن أى علاقة عكس ذلك تكون غير شرعية وهو ما يدفع بالمحكومين أن يتحركوا من أجل تغيير هذه الوضعية، خاصة «إذا ما استخدم الحكام القوة المادية كى تضمن طاعة المحكومين».. ما يعنى أن «السلطة صارت مزعزعة، فالدكتاتورية مرض يصيب السلطة وينشأ من فقدان اقتناع المحكومين بالسلطة القائمة وغياب العنصر المعنوى الذى وظيفته هى إقناع المحكومين»، وعليه تكون السلطة بعد شرعية.

 

ونقطة انطلاق الشرعية هى «أن أى نظام سياسى أصيل، يجب أن ينطلق من مفاهيم تحفظ للإنسان كرامته، وتضمن حقوقه،وتؤكد وحدة الجماعة».

 

 فى ضوء ما سبق يقول وليم سليمان قلادة إن هناك حقيقة أساسية فى التاريخ المصرى هى أن «الانفصال القاطع بين الفئة الحاكمة وبين الأهالى المحكومين استمر على مدى قرون». استمر هذا إلى أن نجحت الحركة الدستورية فى إقرار «مبدأ المواطنة».. إلا أن هذا لا يعنى نهاية المطاف.

 

فإقرار مبدأ المواطنة لم يتم إلا بعد نضال طويل وعبر قرون. فلقد كانت هناك دوما إثنية حاكمة فى مواجهة المحكومين من المصريين. بيد أن هذا الإقرار لا يعنى نهاية النضال لأن العبرة بأداء الحكام وهل يقيمون شرعية حكمهم على «أسانيد يمارسون على أساسها إخضاع المحكومين، وضمان بقاء السلطة فى أيديهم، واستمرار تداولها فيما بينهم».. فى إطار قلة وشبكة مغلقة.. «طبقا للنظم التى أقاموها لتأييد مراكزهم دون اعتبار لرأى المحكومين. هذه الأسانيد والنظم التى هى مضمون فقه الحكام». إذا كان هذا هو الحال فعلى المحكومين أن يفرضوا فقها مغايرا هو «فقه المحكومين»، ذلك باختراق حاجز السلطة وتجديد المواطنة ببعديها: المساواة والمشاركة، ووضع فقه المواطنة فى نص دستورى جديد يتجاوز ما سبق.

 

المواطنة: حركة وفقه/ نص

 

 ما أن يتحرك المصريون نحو المواطنة فإن هذا يؤدى إلى تأسيس وضع جديد. فاختراق حاجز السلطة وتحول الرعايا إلى مواطنين وجلوسهم فى مراكز الحكم وإقرار شرعية جديدة يترتب عليه ما يلى:

 

تجديد الانتماء للوطن بغير خصومة مع الانتماءات الأولية، المشاركة فى السلطة، وهى المشاركة التى تجرى بعد نجاح حركة المحكومين فى اختراق حاجز السلطة وبدء أعمال فقه المواطنة، المساواة بين هؤلاء المحكومين بغض النظر عن أية اختلافات، فالمعيار هنا هو أن الجميع قد شارك فى الاختراق الذى تم لحاجز السلطة أو الحركة التى تمت من أجل التغيير.

 

فى هذا السياق تأتى المشاركة فى وضع النص الدستورى، وهنا يقول قلادة: «وفى الحقيقة فإن النظام الدستورى الأصيل والفعال لا يقوم فى الجماعة بمجرد إعلان وثيقة تتضمن نصوصا موضوعية أو مستوردة من المكان أو من الزمان، ينهض بصكها خبراء الصياغة، مع إقامة المؤسسات التى تعمل بانتظام واضطراد لتنفيذ الأحكام التى تضمنتها هذه الوثيقة، كما أن الدستور ليس مجرد نتيجة تستخلص من بناء نظرى». ويؤكد أستاذنا قلادة أن «المجتمع يعيش فى صراع دائم من أجل استخلاص المضمون المناسب للقاعدة الدستورية والقانونية المتفق مع حقائق حركة المجتمع».

 

ويشدد وليم قلادة على دارس القانون الدستورى والنظم السياسية أن «لا يكتفى بالمنهج الوصفى والوظيفى المصمت، بل يتعين أن يدخل فى اعتباره العوامل التى تدخل فى صياغة الطبيعة المتميزة لكل نظام»، والتى تتمثل فى: «تكوين الجماعة وتاريخها، الخصائص الطبيعية والاقتصادية للبلاد، الصفات النفسية والاجتماعية للشعب، والنموذج المستقبلى الذى تريده الجماعة». وتحت النموذج المستقبلى يمكن أن نضيف: النموذج التنموى، والموجات الحقوقية الجديدة والحريات فى سقفها العالى التى تساعد على تمكين المواطنين على اختلافهم.

 

ويحذر قلادة من الرأى القائل بضرورة أن يكون «رأى الأغلبية هو واجب الاتباع». وحول هذا الأمر يشير قلادة إلى أهمية «تحديد المصطلحات». فمدلول الأغلبية والأقلية لديه له طبيعة سياسية؛ ومن ثم فمن حصل على الأغلبية اليوم قد يصبح فى صفوف الأقلية لاحقا. ولكى يمضى الحوار فى مسار يتفق مع مفهومه الأصيل يجب أن يصبح من الممكن أن يؤدى إلى إمكانية التحول المتبادل بين الأغلبية والأقلية.. أما إذا صار هناك احتكار مجموعة من المواطنين مركز الأغلبية بصفة مؤبدة، فهنا نخرج عن المعنى السياسى الدستورى لهذين المصطلحين. ويكون هذا نفيا للحركة باعتبارها مرجعية التنظيم الدستورى، وإهدارا للحظة الدستورية التى اكتمل فيها نجاح هذه الحركة، وتجاهلا صريحا لعنصرى المواطنة: المشاركة والمساواة. فالنتيجة الحتمية للمشاركة فى الكفاح أسفل حاجز السلطة، والمزايدة فى بذل التضحيات فى إطار فقه المواطنة، تلك الحقوق التى تترتب للمواطنين بعد اختراق: جميع مكونات الجماعة معا، وفى وقت واحد لحاجز السلطة».

 

المبادئ العامة التى يضعها وليم سليمان قلادة مستخلصا إياها من الخبرة المصرية عبر العصور كذلك من خبرة الآخرين (هناك فصل حول الحركة الدستورية خارج مصر) بمثابة رسالة حية يرسلها لنا فى غمرة العملية السياسية المركبة وتحية منه لحراك كان يثق راسخا فى انه قادم لا محالة.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved