عن مقامرة الليدي ميتسي التي تفيض بالعذوبة
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 16 يناير 2024 - 6:50 م
بتوقيت القاهرة
لم أقرأ منذ سنوات رواية مصرية تفيض بالعذوبة الموجودة فى رواية (مقامرة على شرف الليدى ميتسى) وهى من إصدارات دار دون للنشر، ومن تأليف الروائى الشاب أحمد المرسى.
والمؤكد أن لجنة تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية تستحق الشكر الجزيل لانها انتبهت لقيمة الرواية واختارتها ضمن روايات القائمة الطويلة التى يصعد منها ٦ روايات للقائمة القصيرة وبعدها يتم اختيار الرواية الفائزة من بين رواياتها قبل يوم من افتتاح معرض أبوظبى للكتاب. يعمل المرسى الذى لم اتشرف بمعرفته إلا من خلال الكتابة صحفيا فى صحيفة الوطن، ويمتلك لغة انيقة لا تبتعد عن لغة الشعر؛ الا بالقدر الذى يجعلها تؤدى وظيفتها السردية.
وقد نجح نجاحا فائقا فى بناء عالم روائى فريد، ويندر ان تجد فى روايته صفحة لا تكشف مقدار الجهد الذى بذله فى التحضير لها.
تدور أحداث الرواية فى عشرينيات القرن الماضى لكنها تنجو من جرائم الرواية التاريخية وحلولها السهلة، وتركز على عالم جديد تماما لم تقربه الرواية المصرية من قبل، وهو عالم سباقات الخيل.
غاص المرسى تماما فى جميع التفاصيل المتعلقة بالخيل وأغرم بها وصاغ قطعة من نسيج انسانى متواشج، كما ابتكر لغة تنهض على مفردات مجلوبة من عالم السباقات، ومن الفضاء اللغوى لتلك السنوات البعيدة لذلك بدا العالم غرائبيا بفضل المسافة الزمنية التى تفصلنا عنه، واصبح السباق بؤرة تنصهر فيها مصائر الأبطال وغالبيتهم من التعساء وسيئى الحظ. وأول هؤلاء سليم حقى ضابط الداخلية الذى فقد وظيفته بسبب مواقفه الوطنية وهتافه مع الثائرين لأجل نصرة سعد باشا زغلول، والثانى مرعى المصرى مرمطون السباق فى نادى هليوبوليس، والثالث فوزان الطحاوى الصبى البدوى الذى تم جلبه مع الفرسة (شمعة) بعد ان اختيرت لتكون فرسة السباق، أما الرابعة فهى السيدة الإنجليزية ميتسى خشاب التى مات ابنها وارتبطت بمصر، والخامسة عايدة زوجة سليم.
كل هؤلاء يربطون أمنياتهم فى غد أفضل بأقدام الخيل على أمل أن تفوز ليتمكن سليم من تسديد الديون التى تجمعت فوق رأسه بعد مرض زوجته (عايدة) التى باع لأجل علاجها أثاث منزله ولم يتبقَ له شىء سوى الجرامافون الذى يؤنس وحشتها. وبعد ان استدان من طوب الارض، صدق أن الخيل قد تكون حلا لأزمته، فالجرى سر، والخيل لصاحبها الفخار، عندما تفوز الفرس يحصد فارسها المجد، حتى لو كان فقيرا معدما، الفائز يقوم له الشيوخ الكبار فى المجالس إذا دخل ويباركونه».
بعد أن قام بالتحريات اللازمة يذهب سليم إلى (مقهى الديوك) بحثا عن مرعى المصرى مرمطون السباق العارف بأسراره على امل ان يرتب له فرصة الفوز. ينصحه مرعى بجلب فرس أصيلة من جزيرة الخيل لدى قبيلة الطحاوية ويذهبان معا إلى هناك ويعودان بالفرسة ومعها فوزان الصبى الذى رفض التخلى عنها وأراد ان يهرب من القهر الذى يمارسه عليه عمه، فيأخذه سليم إلى بيته وهناك يتحول على نحو ما إلى ابن لعايدة التى لم تنجب فاختارت ان تسامره وتعوض رغبتها فى الامومة عبر نهر الحياة الذى امتد بينهما. تنسج الرواية علاقة رائعة تجمع بين سليم ومرعى الذى يتعاطف مع سليم ودوافعه ويساعده لاجل ان تشفى عايدة، كما تؤطر الرواية لعلاقة أخرى تجمع بين مرعى والسيدة الانجليزية ميتسى التى ترق لحاله وتدرك جوهره، بعد أن لمست انسانيته البالغة أحبها ودعته لحفل عشاء تنظمه على شرف البارون إمبان فى فندق قصر هليوبوليس وهنا يطلب مرعى من سليم ان يصحبه فى هذه السهرة لكن سليم يهاجم كبار الحاضرين لأنهم شمتوا فى سعد زغلول وسخروا منه، ومن الثورة.
تعجب ميتسى بشجاعته، وتدعوه إلى بيتها لمرات عديدة، ويتبادلان ما لديهما من أسى. إلى ان تقرر منحه فرستها ليراهن عليها وتصبح هى طوق النجاة للجميع الا ان الرياح لا تأتى دائما بما تشتهى السفن.
وعلى الرغم من أن ظاهر الرواية قد يوحى بانها رواية ميلودرامية تفيض بالحزن، إلا أن هذا الانطباع يبدو غير دقيق، لأن ما فيها هو شىء آخر لا علاقة له بالفجيعة أو الحزن وانما هو وثيق الصلة بالحنان أو الاسى، انها فجيعة الامل الكاذب والامنيات غير المحققة، فمن الصعب استقبال مونولوجات سليم فى مراجعته لمواقفه وما جرى فى الثورة الا بوصفة مرثية يكتبها المرسى لثورة جيله اكثر مما تعود إلى ثورة ١٩ ويسهل على القارئ ان يلاحظ كذلك ان علاقات الحب والصداقة تؤسس فى الرواية على الحنان لكنها تنمو فى ظلال من الأسى الذى يضرب بجذوره فيها فيحولها إلى أنشودة فاتنة من اناشيد الفقد والغياب، أو رحلة يعيد ابطالها اكتشاف أنفسهم وهم يرممون أرواحهم للإفلات من علاقات القهر لبلوغ الحرية، وإلا كيف نفسر موقف فوزان من عمه الذى سرق أرضه أو رفض مرعى اهانة خليل بك وثورته عليه.
وكذلك يصعب على القارئ أن يتفادى فيها مشاهد تعرف كيف تستقر فى القلب ومنها المشهد الذى يظهر فوزان لعايدة للمرة الأولى ويبدو كأنه ابنها بالاختيار يطل عليها فى ظلام غرفتها كمعادل للنور. ولاشك أن شخصية مرعى المصرى تبقى واحدة من أجمل الشخصيات التى رسمها الأدب المصرى المعاصر
فى السنوات الاخيرة ويتجلى فيه ابن البلد (نبيه الاحساس) الذى جعل من الرواية (مغامرة) تسعد القلب وتهدهد الروح ودعوة للتصالح مع الحياة كما كتبت ميتسى فى رسالتها الأخيرة.