ليست كل ثورة مثل الأخرى .. سوريا ليست اليمن!
جميل مطر
آخر تحديث:
الخميس 16 فبراير 2012 - 9:35 ص
بتوقيت القاهرة
ما اجتمع مثقفون عرب فى الآونة الأخيرة إلا وناقشوا حسابات الربح والخسارة فى الثورات العربية وأصدروا عليها أحكام النجاح والفشل وقارنوا بين ظروف نشأتها وتطورات مسيرتها وخواتيمها المتوقعة. يسفر النقاش غالبا عن أن الثورة الليبية كانت الثورة التى حققت أفدح خسائر فى الأرواح، وكان تعامل السلطة السورية مع الثوار الأشد وحشية، وكانت مسيرة الثورة المصرية الأصعب تعقيدا بين كل المسيرات، وكانت الثورة اليمنية الأكثر غرابة بين كل الثورات. الأنعم بين كل الثورات العربية كانت الثورة التونسية.
توحدت الثورات فى شعاراتها وأهدافها، كلها تبحث عن حرية وكرامة وعدالة اجتماعية، وكلها تسعى للخلاص من حكم الاستبداد والانفراد بالرأى وفساد عوائل الحكم وهدر ثروات الشعوب. وتفرقت فى طبيعتها وبنيتها. بل كاد الكثيرون يتوصلون إلى قناعة أن المجتمعات العربية وإن توحدت فى اللغة والثقافة فإنها لا تتشابه فى معظم الأشياء، وبخاصة فى الهويات الثانوية والتقسيمات الاجتماعية والعلاقة بين الإنسان والوطن.
●●●
يدور منذ أيام نقاش حول مدى النجاح الذى حققته الخطة الأمريكية التى نفذها مجلس التعاون الخليجى فى اليمن. قضت الخطة بتنازل على عبدالله صالح عن منصب رئاسة الجمهورية لنائبه، وبعد فترة، يعتقد واضعوا الخطة أنها ستتسم بهدوء نسبى، تجرى انتخابات جديدة، وينتخب برلمان جديد ورئيس جديد للبلاد. بعض النقاش الدائر حاليا حول خطة اليمن يهدف إلى بحث إمكانية تنفيذ خطة مماثلة فى سوريا، يجرى بمقتضاها تقديم ضمانات لبشار الأسد، ومعه ربما نفر قليل من جماعته، بخروج آمن وحصانة قانونية. وبناء على هذه الضمانات يتنازل لنائبه فاروق الشرع الذى يتولى بدوره تشكيل حكومة انتقالية تمثل فيها كل أطياف السياسة، تمهد لإجراء انتخابات ديمقراطية حرة، برلمانية ثم رئاسية.
تعتمد الخطة، فيما أتصور، على عاملين رئيسيين، أولهما أن كل الأطراف الخارجية، وكذلك أطراف فى سوريا نفسها، توصلت إلى الاقتناع بأن الصراع الناشب بين السلطة والثورة فى سوريا وصل إلى «مستوى التوازن» وثبت عنده، بمعنى أن كل تصعيد فى العنف من جانب سيقابله تصعيد فى العنف من الجانب الآخر. مثال على ذلك، أن كل تدخل من الخارج لصالح الثوار سيقابله تدخل من الخارج لصالح السلطة.. وكل عناد أو تصلب فى المواقف من جانب فريق دولى يدعم الثوار سيقابله عناد أو تصلب فى مواقف فريق دولى آخر يدعم نظام الأسد، وفى كل الأحوال يستمر الصراع ثابتا عند «مستوى التوازن» الذى وصل إليه.
أما العامل الثانى الذى يمكن أن يكون قد اعتمد عليه واضعوا خطة لسوريا، فهو، فيما أتصور أيضا، عبارة عن جملة اعتبارات تكاملت فى ذهن هؤلاء المخططين من الخارج وهى الاعتبارات التى تشكل الآن ضغطا متزايدا على الدول الغربية ودول عربية للإسراع فى التنفيذ. هذه الاعتبارات، وبإيجاز شديد هى الآتية:
(1) هناك حدود لصبر الجيران العرب حكاما وثوارا ورعايا، هؤلاء لن يتحملوا تكلفة وتبعات وعواقب عملية «سقوط مطول» لبشار الأسد وجماعته، خاصة بعد أن صار السقوط أمرا منتهيا فى نظر أغلب الأطراف.
(2) أكدت تطورات الثورة فى ليبيا، كما أكدت قبلها تطورات الحرب الأمريكية الأطلسية ضد العراق، تراجع قوة احتمال المجتمعات الغربية للأعباء المعنوية والاستراتيجية الناتجة عن المشاركة بالكثير أو القليل فى حروب خارجية. وقد أصبح من المسلمات استحالة تفويض طرف أو أطراف عربية للقيام بمهمة عسكرية قتالية فى دولة عربية أخرى طالما بقيت الجامعة العربية بدون جهاز وآليات للتدخل الجماعى.
(3) تصاعدت فى الآونة الأخيرة وتيرة التوترات الطائفية ليس فقط فى سوريا ومحيطها القريب، وهو محيط قابل للتفجر، ولكن أيضا فى المحيط الأبعد قليلا مثل بعض دول الجزيرة العربية وخاصة فى مواقع متاخمة لبحيرات النفط ولقواعد عسكرية غربية.
(4) لم تحسم أى ثورة عربية أمرها بعد. بمعنى آخر مازالت كل الثورات، ابتداء من حيث هى كامنة كالجزائر وموريتانيا إلى حيث هى ناشبة، ثم إلى حيث بؤر الغليان فى مناطق أخرى. الإقليم بأسره فى حال بركانية؛ غليان تحت الأرض فى مواقع، وحمم يقذف بها الغليان بين الحين والآخر فى مواقع أخرى، وتربة جديدة وإن مشتعلة فى مواقع ثالثة. ولا يوجد أدنى شك فى أن استمرار الثورة فى سوريا على هذا النحو كفيل بأن يزيد من تعقيد المسيرات الثورية الراهنة وتفاقم الغليان وانفجار براكين جديدة.
●●●
إن ما تسرب من أفكار، منقولة بوسائل اتصال شخصية أو منشور بعض منها فى مقالات فى صحف غربية، يشير إلى رغبة فى تطوير الخطة التى نفذت فى اليمن لتتناسب وظروف سوريا، كأن يضاف إليها ما أطلق عليه أحد المحللين فى مقال نشر فى صحيفة نيويورك تايمز تعبير «تنازلات استباقية» من جانب دول الغرب وإسرائيل والثوار مقابل تنازل الأسد، ولو بعد حين. بمعنى آخر تنفيذ عملية «سقوط منضبط» لنظام الحكم فى سوريا.
●●●
سوريا ليست اليمن، ولن يكون الحل فى سوريا مقاربا، ولو بعد التطوير، للحل فى اليمن، فسوريا يحيط بها غليان بينما لم يكن يحيط باليمن عند وضع خطته إلا قلق وتوقعات بأخطار وتهديدات لا أكثر. ولسوريا أهمية استراتيجية ودولية فرضتها ظروف فريدة فى الجغرافيا وظروف استثنائية فى التاريخ، وقد دفع اليمن فى زمن سابق ثمنا باهظا عندما كانت له أهمية مماثلة بسبب الموقع والتاريخ، وقد تعود له الأهمية مستقبلا. من ناحية أخرى لا توجد فى جوار اليمن لبنان أو العراق أو إسرائيل أو تركيا منفردة أو مجتمعة كما هو الحال فى الجوار السورى.
وأخيرا، لا يمكننا إنكار أو تجاهل أن سوريا ربما كانت الآن الساحة الوحيدة التى يمكن لروسيا أن تدير عليها أو منها آخر معاركها مع الغرب. هذه الساحة لن تفرط روسيا فيها إلا مقابل ثمن باهظ لا يبدو أن الغرب جاهز لدفعه الآن.