رشدى سعيد وذلك الجيل الرائع من المثقفين المصريين
جلال أمين
آخر تحديث:
السبت 16 فبراير 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
عندما سمعت منذ يومين ذلك الخبر المحزن بوفاة الدكتور رشدى سعيد بواشنطن، كان أول ما مرّ بذهنى صورة وجهه البالغ الهزال التى رأيتها فى آخر زيارة له للقاهرة منذ ثلاث سنوات، قبل أن يشتد به المرض. كان مع ذلك كما عهدته منذ معرفتى به، دائم الابتسام والتفاؤل، محبا للحياة ولا يستسلم أبدا للمرض، كأن لديه دائما مشروعا يريد تحقيقه ولا يسمح للموت أو المرض أن يقفا حائلا دونه.
ثم سرعان ما قفزت إلى ذهنى صور متتالية لذلك الجيل الرائع من المثقفين المصريين الذين فقدناهم، الواحد بعد الآخر، خلال العشر سنوات الماضية. استطاع الدكتور رشدى سعيد أن يصمد حتى بلغ الثالثة والتسعين، ولم يخمد نشاطه الفكرى والجسدى إلا فى السنتين الأخيرتين، ولكنهم كانوا مجتمعين يشكلون باقة بديعة من المثقفين، يصعب أن نتصور اجتماع مثلهم فى وقت واحد فى المستقبل. لابد أنه كان عصرا ذهبيا ذلك الذى انتج أمثال هؤلاء، وأظن أن من المفيد أن نحاول اكتشاف ما الذى جعله فعلا عصرا ذهبيا، بالمقارنة بما حدث بعد ذلك.
•••
إن كل الأسماء التى قفزت إلى ذهنى إلى جوار اسم رشدى سعيد، ولد أصحابها فى الخمسة أو ستة أعوام التالية مباشرة لثورة 1919. ولد خلالها، غير رشدى سعيد، عبدالعظيم أنيس ومحمود العالم، إسماعيل صبرى عبدالله وإبرهيم سعد الدين، فؤاد زكريا وأحمد بهاء الدين، سعيد النجار وزكى شافعى. لاشك أن من القراء من يستطيع أن يضيف إلى هذه القائمة أسماء أخرى رائعة، ولكن هؤلاء كان من حسن حظى أنى عرفتهم كلهم عن قرب، ومن ثم أستطيع أن أكتشف عن طريقهم ما الذى كان يميز هذا الجيل الذهبى من المثقفين المصريين.
ما الذى كان يجرى فى مصر فى صباهم ومطلع شبابهم مما كان من الممكن أن ينتج ما كانوا يشتركون فيهم من صفات رائعة؟ تعلموا كلهم تعليما جيدا، وحصل معظمهم على الدكتوراة من الخارج، ومن لم يسافر منهم للدراسة فى الخارج كان فى متناول يديه كل ما يسمح له بأن يحصل ما حصله الآخرون من ثقافة غربية وشرقية. كلهم كان لديه شعور قوى للغاية بالانتماء للوطن، ورغبة عارمة فى استخدام ما حصله من ثقافة لخدمته، ويستهجنون بشدة تصرفات من يرونه يكرس علمه أو فنه لتكوين ثروة أو الحصول على منصب كبير. كانوا من تخصيصات مختلفة، ولكن كان كل منهم على مستوى عال من الثقافة سواء كان تخصصه الاقتصاد (مثل سعيد النجار وزكى شافعى) أو الاحصاء الرياضى (عبدالعظيم أنيس)، أو الفلسفة كـ(فؤاد زكريا ومحمود العالم) أو الإدارة العامة كـ(إبراهيم سعد الدين) أو القانون أو الصحافة كـ(أحمد بهاء الدين) أو الجيولوجيا كـ(رشدى سعيد). لماذا كانت الثقافة الموسوعية ممكنة ومطلوبة فى ذلك العصر أكثر منها الآن؟
كانوا كلهم يجيدون لغة أجنبية (الإنجليزية أو الفرنسية أو كلتيهما) إجادة تامة، لكنهم كانوا أيضا (وياللغرابة!) يجيدون اللغة العربية أيضا فلماذا كانت إجادة اللغة الأجنبية مطلوبة لذاتها فى ذلك الوقت (وليس لمجرد العثور على وظيفة فى شركة أجنبية)، وكان الضعف فى اللغة العربية شيئا مستهجنا ومحتقرا (وليس إعلانا فى التفرنج أو الانتماء إلى طبقة أعلى)؟
كان مستوى التعليم (لمن كانت لديه الفرصة لتلقيه) مستوى راقيا حتى بالمقارنة بالتعليم فى أرقى الدول الأوروبية، يختلط فيه احترام التراث العربى والإسلامى، باحترام منجزات الحضارة الغربية، ويغرس فى التلاميذ احترام أسماء مثل امرئ القيس والنابغة الذبيانى والمتنبى، إلى جانب أسماء شكسبير وفولتير وجان جاك روستو. ولم يبد أن هناك أى تعارض بين احترام الثقافتين، ومن ثم لم تبد أى صعوبة فى الجمع بينهما.
•••
فى هذا المناخ الرائع نشأ رشدى سعيد. لم يكن غريبا إذن أن رشدى سعيد، بعد أن حصل على الدكتوراه فى الجيولوجيا من جامعة هارفارد فى 1950، وعاد مدرسا فى كلية العلوم، وبعد أن كان يلقى محاضراته فى الجيولوجيا بالإنجليزية حتى 1955، انشغل بتعريب محاضراته، فأعاد كتابتها بالعربية بتشجيع من وزير التعليم فى ذلك الوقت (كمال الدين حسين)، الذى كان يؤمن بضرورة تقريب تدريس العلوم. فكانت هذه أول محاولة لتعريب الجيولوجيا فى مصر. ثم انشغل رشدى سعيد بعدها بكتابة (جيولوجية مصر) الذى أصبح مرجعا مهما فى هذا العلم وترجم إلى عدة لغات.
•••
فى سنة 1968 قام عبدالناصر بتعيين رشدى سعيد رئيسا لمؤسسة التعدين والأبحاث الجيولوجية، وكانت هذه المؤسسة تشرف على تسع شركات للتعدين كان معظمها فى حالة يرثى لها عندما تسلمها رشدى سعيد فى أعقاب هزيمة 1967. «فقد أدى احتلال إسرائيل لسيناء إلى أن تفقد الجزء الأكبر من مناجمها، وإلى أن يجبر أكثر من ثلاثين ألف عامل ممن كانوا يعملون (بهذه المناجم) على العودة. كان الجو كئيبا حقا. مؤسسة انهارت معظم مقوماتها المادية، وعاملون فى حالة اكتئاب، وشكوى مستمرة، دون أن يجدوا أحدا ليهتم بهم أو يستمع إليهم».
بدأ رشدى سعيد فى إصلاح كل هذا، طوال عشر سنوات. لكن آماله أصيبت بضربة قاصمة فى أوائل السبعينيات، وأخذت آثارها فى التفاقم حتى اضطرت رشدى سعيد إلى تقديم استقالته فى سنة 1977، إلى وزير الصناعة، فقبلها فى الحال، وبعودة البريد، وحتى قبل أن يرفعها الوزير إلى رئيس الوزراء كما كانت تقضى القوانين. يفسر رشدى سعيد هذا فى سيرته الذاتية بقوله: «جاء وزير تحت ضغط رجال المقاولات (الذين) كانوا أكبر المستفيدين من نقل المشروع، والذى ما كاد يخرج من إشرافنا حتى ارتفعت على أرضه المبانى الشاهقة.. وفى خلال هذه السنوات الاثنتين والعشرين حتى 1996 أنفق ما يزيد على سبعة مليارات من الجنيهات بُعثرت على المقاولين وبيوت الخبرة الأجنبية التى جىء بها من كل أركان الأرض وانتهت بإغلاقه».
بعد استقالته بأربع سنوات، كان رشدى سعيد واحدا من 1536 شخصا وطنيا آخر، أمر الرئيس السادات باعتقالهم فى 1981، ولكن كان رشدى سعيد لحسن الحظ فى خارج مصر وقت صدور القرار باعتقاله.
•••
لقد علمتنى مشاهداتى فى الحياة أن أهم أسباب الخصومة بين الناس ليس تعارض الآراء والأفكار، بل تصادم المصالح، وأن اختلاف الآراء نادرا ما يسبب كراهية أو حقدا، بل الذى يولد الحقد والكراهية التنافس على شىء واحد وتعارض المصالح الشخصية. هذا هو الذى يفسر لى أن هذه المجموعة الممتازة من المثقفين المصريين جمعت بين كثير منهم صداقات حقيقية وتبادل التقدير والمودة، رغم الاختلاف الشاسع، بل التعارض، بين آراء بعضهم البعض. كان بعضهم اشتراكيا ماركسيا (عبدالعظيم أنيس والعالم)، وبعضهم يعتنق فكرا رأسماليا خالصا (سعيد النجار)، والآخرون يساريون معتدلون مستعدون لقبول الجمع بين أفكار الفريقين. وكان الدكتور رشدى سعيد من الفريق اليسارى المعتدل. لكنهم جميعا كانوا رجالا وطنيين بلا أدنى شك، وكلهم كانوا «نظيفى القلب»، فلماذا لا تنشأ بينهم الصداقة وتسود المودة؟ كان هذا هو ما حدث بالفعل، فما أكثر ما رأيتهم يتناقشون، بعضهم مع بعض، وقد سادهم الوئام مع استعداد لدى بعضهم لمداعبة صاحب الرأى المضاد بنقد خفيف له، دون أن يؤدى هذا إلى أى غضب أو توتر. فإذا كان الأمر كذلك، فهل يمكن أن نتصور أن يفرق بينهم أن يعضهم مسلم وبعضهم قبطى؟ أعتقد اعتقادا جازما أن المناخ الاجتماعى الذى نشأ، وتربى فيه هؤلاء الرجال العظام، كان يمنع تماما وجود هذا الاحتمال، بما فى ذلك الكتب التى كانوا مطالبين بقراءتها فى المدارس، والمقالات التى كانوا يقرأونها فى الصحف.
كان مناخا جميلا يحق لنا، نحن الذين عشنا حتى بلغنا العقد الثانى من القرن الواحد والعشرين، أن نحن إليه ونأسف على اختفائه، كما نشعر اليوم بالحنين إلى رجل مثل الدكتور رشدى سعيد ونحزن لوفاته.