دروس الماضى التى لا تنفع الحاضر
مصطفى كامل السيد
آخر تحديث:
الأحد 16 فبراير 2020 - 9:05 م
بتوقيت القاهرة
يقولون ما أشبه الليلة بالبارحة. عبارة مأثورة نذكرها عندما نلمح تشابها بين حاضرنا ولحظات معينة فى الماضى. توجد أوجه شبه كبيرة بين ما عرفه العالم فى الفترة التى سبقت الحرب العالمية الثانية وأوضاع العالم وأوضاع الوطن العربى فى الوقت الحاضر، ولكنى لست مطمئنا إلى أن أسلوب الخلاص من أزمات ما قبل تلك الحرب يمكن أن يتحمله العالم الآن، كما لا أعرف السبيل السهل لخروج الوطن العربى من انعكاسات هذه الأوضاع عليه.
والقصة باختصار أن العالم شهد فى ثلاثينيات القرن الماضى تصاعدا للتوتر بين كتلتين من القوى الكبرى بسبب التنافس الاقتصادى وسباق التسلح، وبينما كانت كتلة القوى المعادية للديمقراطية فى ألمانيا وإيطاليا واليابان تحرز تقدما اقتصاديا وانتصارات عسكرية فى وسط أوروبا وشرق إفريقيا وشرق آسيا، كانت الكتلة المسماة بالديمقراطية فى بريطانيا وفرنسا تعانى من عدم الاستقرار وامتداد آثار الأزمة الاقتصادية العالمية ومن عزلة الولايات المتحدة عنها وترددها فى التحالف مع الاتحاد السوفيتى عدو خصومها. ولكن ضعف الكتلة الليبرالية صاحبة الامبراطوريات الاستعمارية لم يشكل تحديا كبيرا لاستمرار قبضتها على المستعمرات خارج القارة الأوروبية بما فى ذلك الوطن العربى الذى شهد استمرار تبلور المشروع الصهيونى على أرض فلسطين رغم المقاومة الباسلة للفلسطينيين فى ثورتهم الكبرى من ١٩٣٦ــ ١٩٣٩. وكان المخرج من هذه الأزمات هو الحرب العالمية الثانية التى اندلعت عندما رفضت الكتلة الليبرالية بقيادة بريطانيا أولا ثم الولايات المتحدة بعد ذلك الاستسلام لتقدم الكتلة المعادية للديمقراطية، وهو ما أدى إلى هزيمة تلك الكتلة وظهور نظام عالمى جديد تراجعت فيه السيطرة الاستعمارية على بلاد آسيا وإفريقيا بما فى ذلك الوطن العربى. أستبعد أن يكون الصدام العسكرى بين القوى المسيطرة على أوضاع العالم هو المخرج من أزمات القرن الحادى والعشرين، رغم أن بعض الكتابات تشير إلى احتماله، ولكنه إن حدث لن يكون مخرجا للعالم وإنما سيكون محاولة لاستعادة أوضاع تجاوزتها التطورات العلمية والتكنولوجية والاقتصادية فى القوى الصاعدة. فلنستعرض أولا أوجه الشبه بين أوضاع العالم فى ثلاثينيات القرن الماضى وأحواله الراهنة، وانعكاساتها على الوطن العربى، وأخيرا احتمالات الخروج منها.
أشباح الماضى فى أوضاع العالم الراهنة
أول هذه الأشباح هو التنافس التجارى والعسكرى بين الدول الكبرى قبل الحرب العالمية الثانية مما دعاها إلى الدخول فى مفاوضات حول قواعد التنافس فى الأسواق العالمية شاركت فيها الولايات المتحدة وبريطانيا من جانب واليابان وألمانيا من جانب آخر، كما تسابقت هذه الدول وخصوصا ألمانيا واليابان على بناء قوتها العسكرية واستخدمت هذه القوة فى توسيع سيطرتها على أقاليم قريبة من حدودها وهو ما فعلته ألمانيا فى النمسا وإقليم السوديت فى تشيكوسلوفاكيا، واليابان فى شرق الصين، كما حاولت إيطاليا تدعيم سيطرتها على كل من إثيوبيا وليبيا، وفى الوقت الحاضر تزايدت أسباب التوتر فى الاقتصاد العالمى مع صعود قوى اقتصادية جديدة تتنافس مع الولايات المتحدة، وظهر هذا التوتر فى علاقات الولايات المتحدة الاقتصادية مع كل من الاتحاد الأوروبى والصين إلى الحد الذى هددت فيه الولايات المتحدة بل واستخدمت سلاح التعريفة الجمركية للحد من وارداتها من هذين القطبين، بل وتحولت الولايات المتحدة إلى موقف العداء من مشروع الوحدة الأوروبية، وواصلت زيادة تعريفاتها الجمركية على طائفة واسعة من الصادرات الصينية إليها، بل ودخلت حتى فى نزاع مع شريكيها فى اتفاقية التجارة الحرة لدول شمال أمريكا، ومع أن حدة التوتر هذه قد خفت مع نجاح المفاوضات التجارية بين الولايات المتحدة والصين وإعادة التفاوض على معاهدة التجارة الحرة فى شمال أمريكا إلا أن أسباب التوتر مازالت قائمة مع كل هذه الدول وخصوصا الصين التى من المتوقع أن تحل محل الولايات المتحدة قريبا كأكبر قوة اقتصادية فى العالم، وهو ما يدعو الولايات المتحدة لمحاولة وقف صعودها الاقتصادى بمحاربة استخدام الدول الغربية عموما لتكنولوجياتها المتقدمة.
وفى المجال العسكرى يتصاعد سباق التسلح بين الولايات المتحدة من جانب وكل من الصين والاتحاد الروسى من جانب آخر، ومع أن الولايات المتحدة قد زادت فى ظل إدارة دونالد ترامب كثيرا من إنفاقها العسكرى، فإن أكثر ما يسبب قلقها هو التقدم التكنولوجى والعسكرى للصين وتواجد الأسطول الصينى فى جميع قارات العالم بما فى ذلك الأقاليم البعيدة عن الصين مثل الشرق الأوسط وإفريقيا.
والشبح الثانى هو تعمق الخلافات داخل معسكر القوى المسماة بالديمقراطية، فقد شهدت الفترة السابقة على الحرب العالمية الثانية ضعف التماسك بين كبرى الدول المسماة بالديمقراطية وغموض موقفها من القوى الأخرى التى شاركتها الخصومة مع دول المحور المعادية للديمقراطية. لم يكن هناك توافق قوى بين كل من بريطانيا وفرنسا اللتين تنافستا فى السيطرة على المستعمرات، ونأت الولايات المتحدة بنفسها عن الدخول فى معترك السياسة الأوروبية، وترددت كل من بريطانيا وفرنسا فى التحالف مع الاتحاد السوفيتى الذى شاركهما العداء لدول المحور، ما دفع الأخير إلى إبرام معاهدة صلح لم تستمر طويلا مع ألمانيا النازية. وتشهد السياسة العالمية منذ سنوات غياب التماسك بين دول حلف الأطلنطى التى تدعى تمسكها بالديمقراطية، وخصوصا مع تولى ترامب رئاسة الولايات المتحدة وانتقاده لحلف الأطلنطى باعتباره تنظيما عَفَا عليه الزمن، ويسهم خروج بريطانيا بعد شهور فعليا من الاتحاد الأوروبى، والخلاف حول الموقف من الاتحاد الروسى بين كل من الولايات المتحدة والدول الأوروبية الكبرى فى زعزعة هذا التماسك.
وشبح الماضى الثالث هو صعود القوى المعادية للديمقراطية، وكان أبرز مثل على ذلك قبل الحرب العالمية الثانية هو تولى السلطة فى عدد من الدول الكبرى من جانب أحزاب أو جماعات حاكمة تعلن صراحة رفضها للديمقراطية وإعلاءها للاعتقاد بالتفوق العرقى لأممها على غيرها من الأمم، وهو ما كان عليه الحال مع الحزب الفاشى فى إيطاليا والحزب النازى فى ألمانيا ومجموعة العسكريين التى سيطرت على حكومة اليابان، وقد امتدت مثل هذه الأفكار خارج بلدان نشأتها إلى دول أخرى فى كل القارة الأوروبية بما فى ذلك فرنسا وخارج القارة الأوروبية كذلك.
ومع أن أحزاب اليمين المتطرف فى القارة الأوروبية فى الوقت الحاضر لا تعلن عداءها للديمقراطية لأنها فى ظل الديمقراطية تتمكن من كسب أصوات الناخبين، إلا أنها تواصل التعبير عن أفكار مشابهة للأحزاب النازية والفاشية قبل الحرب الثانية، وخصوصا بإعلان عدائها للأجانب وللمواطنين من أصول أجنبية فى بلادها، وتعرب عن كراهيتها للعقائد الدينية لهؤلاء المواطنين حتى وإن لم يكن هناك وجود بارز لأقليات ذات أصول أجنبية فى بلادها، وتتواكب الانتصارات الانتخابية لهذه الأحزاب فى دول غرب وجنوب ووسط وشرق أوروبا، بل وتتبنى هذه الأفكار قيادات سياسية فى الأحزاب الكبرى فى هذه الدول وغيرها كانت تدعى سابقا دفاعها عن مبادئ الديمقراطية الليبرالية كما هو الحال مع حزب المحافظين فى بريطانيا والحزب الجمهورى فى الولايات المتحدة، بل لقد أصبحت مثل هذه الأفكار العنصرية تمثل اتجاها عالميا خارج الدول الغربية فى أمريكا الجنوبية وآسيا والشرق الأوسط، حتى إن دولة مثل الهند سميت بأكبر الديمقراطيات فى العالم تردد قيادتها الآن مثل هذه الأفكار. لقد كانت الأزمة الاقتصادية العالمية فى ١٩٢٩ التى سببت كسادا كبيرا فى أوروبا والعالم هى سياق تآكل شعبية الأحزاب الليبرالية فى وسط وغرب أوروبا بسبب إخفاقها فى علاج آثار تلك الأزمة التى لم تنته إلا مع نشوب الحرب، وتعرف هذه الأحزاب فى هذه الدول فى الوقت الحاضر نفس المصير بسبب إخفاقها الظاهر فى التصدى للآثار السلبية للعولمة وللسياسات الرأسمالية النيوليبرالية على مستويات العمالة والدخل للمواطنين وعلى توزيع الدخول والثروات.
ورابع هذه الأشباح هو تحول ميزان القوى العالمى لصالح القوى غير الديمقراطية، كانت دول المحور قبل الحرب العالمية الثانية هى التى تملك المبادرة فى أوروبا وإفريقيا وآسيا فى مواجهة عدم الاستقرار السياسى فى فرنسا وتردد حكومة تشامبرلين فى بريطانيا والعزلة الاختيارية للولايات المتحدة الأمريكية. ويعرف العالم فى العقد الثانى للقرن الحادى والعشرين انتقال المبادرة إلى الدول غير الديمقراطية سواء على مستوى السياسة العالمية أو فى بعض أقاليمه الهامة. على الصعيد العالمى تتعدد المبادرات من جانب روسيا والصين، الأولى فى الشرق الأوسط والثانية فى المجال الاقتصادى والسياسى بطرح مشروع الحزام والطريق، وعلى الصعيد الإقليمى تملك المبادرة فى الشرق الأوسط إيران وتركيا، وإسرائيل. الأولى التى ترفض كل منظومة الأفكار الليبرالية الغربية والثانية التى يحكمها حزب يمارس التضييق على الحريات السياسية والمدنية لخصومه وحتى لأنصاره الذين تخلوا عنه، والثالثة التى هى التجسيد المعاصر لإيديولوجية عنصرية استيطانية.
انعكاسات هذه الأوضاع داخل الوطن العربى
تنعكس هذه الأوضاع فى الماضى والحاضر سلبا على الوطن العربى. فعلى الرغم من التنافس بين دول المحور ودول المعسكر الليبرالى على مستوى العالم قبل الحرب الثانية فإن ذلك لم يقلل من إحكام سيطرتها الاستعمارية على كل الوطن العربى. صحيح أن بريطانيا قدمت تنازلا شكليا لمصر بإبرام معاهدة ١٩٣٦ التى سميت بمعاهدة الشرف والاستقلال، ولكن احتلالها لمصر استمر حتى سنة ١٩٥٦، وتراجعت أمام الثورة الفلسطينية بإصدار كتاب أبيض حاول الحد من الهجرة اليهودية لفلسطين، ولكنها أخفقت فى تحقيقه وانتهى الأمر بنجاح الحركة الصهيونية فى إعلان قيام دولة إسرائيل فى مايو ١٩٤٨. ويعرف الوطن العربى منذ بداية القرن الحادى والعشرين عودة الوجود العسكرى الغربى إلى أراضيه فى العراق وسوريا، فضلا عن تزايده فى دول الخليج، وتحول الكثير من دوله إلى مسرح للتنافس العسكرى المباشر وغير المباشر من جانب قوى دولية وإقليمية كما يكاد المشروع الصهيونى يكتمل فى فلسطين وتقبل معظم الحكومات العربية التعايش معه.
هل من مخرج؟
أخفقت كل المحاولات السلمية فى حل التناقضات الاقتصادية والسياسية فى العالم فى ثلاثينيات القرن الماضى، وانتهى الأمر بأن مهدت الحرب العالمية الثانية الطريق لحل هذه التناقضات بإسقاط الطرف الذى كان يعترض على الرؤية الليبرالية لمستقبل العالم. ونجحت حركات التحرر الوطنى فى العالم العربى فى نيل الاستقلال السياسى لشعوبه ووقف توسع المشروع الصهيونى مؤقتا إلى حين هزمتها فى حرب ١٩٦٧ولكن لا يبدو فى الأفق مخرج سهل من تناقضات النظام العالمى الراهن ولا من أزمة الوطن العربى. الحرب بين الولايات المتحدة والصين ليست حلا واقعيا للتناقضات فى بنية النظام العالمى فى الوقت الحاضر وذلك بسبب التشابك القوى بين اقتصادى البلدين ولأن التناقض هو بين كل القوى الصاعدة فى النظام العالمى والولايات المتحدة وليس بين الولايات المتحدة والصين وحدهما، كما أنه طالما لا تتبلور موجة ثانية فى حركة التحرر العربى أكثر نضجا، فسيظل العالم ووطننا العربى يعانى من هذه الأوضاع التى تشبه البارحة.