إحنا المصريين الأرمن
نيفين مسعد
آخر تحديث:
الخميس 16 مارس 2017 - 10:05 م
بتوقيت القاهرة
فى 18 أبريل 2013 كتبت فى هذا المكان مقالا عن يهود مصر بعنوان «وخلعت مصر بدلتها البيضاء الشركسكين»، كان المقال يحلل فيلم «يهود مصر» الذى أخرجه أمير رمسيس وكان عنوانه مأخوذا من رواية «الرجل ذو البدلة البيضاء الشركسكين» للأديبة اليهودية الأمريكية ذات الأصل المصرى لوسيت لونادو. وها هو فيلم «إحنا المصريين الأرمن» للمخرج وحيد صبحى يفتح صفحة أخرى من صفحات التاريخ المصرى حين كانت تنبت عشرات الزهور فى بستان مصر، لكل زهرة لونها وعبيرها وجمالها وكانت التربة المصرية خصبة إلى المدى الذى سمح بتفتح كل هذه الزهور.
لم تصاحب الفيلم الخاص بالأرمن ضجة كبيرة كتلك التى أحاطت بفيلم اليهود بل إن الكثيرين لم يسمعوا به أصلا، وربما يعود ذلك إلى أن الفيلم عُرِضَ بعد مهرجان القاهرة لمدة يوم واحد (12 مارس) فى سينما زاوية التى صارت شهرتها أنها دار لعرض الأفلام المتميزة والتى ليست بالضرورة أفلاما جماهيرية. قام فيلم وحيد صبحى على عدد كبير من اللقاءات مع بعض أرمن مصر بلغ نحو 34 لقاء أما إجمالى اللقاءات التى أجراها فوصلت إلى 100 لقاء، وبالإضافة لهذه اللقاءات كان هناك تواصل مع أرمن مصر فى الخارج وبحث فى الكتب والموسوعات تدقيقا لمعلومة أو بحثا عن تفاصيل.
***
هاجر الأرمن إلى مصر فى أعقاب المذابح التى تعرضوا لها على أيدى العثمانيين، وقد عرض الفيلم سريعا لموجة هجرتهم بعد المذابح الحميدية عام 1894 التى وفد معها نحو 200 أرمنى إلى مصر، لكنه توقف مليا أمام موجة الهجرة الأكبر عقب مذابح 1915 حينما وصل 4000 مهاجر أرمنى على متن 6 سفن إلى ميناء بورسعيد. وعلى مدى هذا التاريخ الطويل لم تتأزم علاقة الأرمن بالدولة المصرية إلا مرتين، الأولى عام 1924 عندما شاع أنهم يعاونون بريطانيا وتلك واقعة لا توجد معلومات كثيرة عنها، والثانية بعد إجراءات التأميم فى الستينيات التى طالت الأرمن كما طالت سواهم وهاجرت أعداد منهم على إثرها، وفيما عدا هاتين المرتين لم تكن للأرمن شكوى. اندمجوا فى المجتمع المصرى وتفوقوا فى كل المواقع التى شغلوها، فكانوا يُلَقبون بملوك الصوف والتبغ، واتخذ محمد على منهم مترجميه الثقات فهم كما وصفتهم سيدة أرمنية فى الفيلم «يتنفسون بأربع لغات على الأقل»، نبغوا فى المشغولات اليدوية وتجارة الذهب والماس، وكان منهم أعلام فى فنون التصوير والتمثيل والكاريكاتير، اهتموا بالتعليم حتى لُقب أحدهم بالـ«الأستاذ الكبير» كما كان منهم رئيس للوزراء ووزير للخارجية. وهكذا صار من غير الممكن أن تحكى عن تاريخ مصر بدون أن تذكر أسماء كثيرة مثل نوبار باشا وداكران دابرو وصاروخان وكيروبيان وكاراجوزيان وڤان ليو وكوتاريللى وماتوسيان وأرمان ويعقوب أرتين وآرام وشجرة عائلة فيروز ونيللى ولبلبة وأخيرا أنوشكا.
***
تحدث فى الفيلم بلهجة مصرية مهجنة ڤاهرام براوديان ــ وأرجو أن أكون التقطت الاسم بدقة ــ وهو فى الخامسة والتسعين من عمره لكنه متقد الذهن لا يفتأ يشعل غليونه كلما انطفأت جذوته، كما عرض الفيلم لشخصيات من الجيلين الثانى والثالث وهذه نقطة اختلاف جذرية عن يهود مصر. فعلى العكس من وضع اليهود الذى تقلص إلى آحاد حتى شبهتهم رئيسة الطائفة ماجدة هارون بالديناصورات المنقرضة فإن أرمن مصر يتراوح عددهم ما بين 4000 و5000 شخص، صحيح أن هذا العدد انخفض بشدة مقارنة بما كان عليه مطلع الخمسينيات (نحو 50000 نسمة)، لكنهم جماعة حية لها مدارسها وكنائسها ومتاجرها وجمعياتها الأهلية. ويرجع الاختلاف الأساسى بين وضع اليهود والأرمن إلى التعقيدات المرتبطة بنشأة إسرائيل، ومن هنا فإن واحدة من أهم موجات هجرة يهود مصر تلت العدوان الثلاثى خصوصا مع الخلط بين اليهودية كدين والصهيونية كأيديولوچية. وعندما تفكك الاتحاد السوڤيتى وأصبحت أرمينيا واحدة من جمهورياته المستقلة لم يُغر ذلك الأرمن بالهجرة لها، أقصد أن هذه العلاقة العضوية بين الكثير من يهود العالم وإسرائيل لا مثيل لها فى علاقة الأرمن بأرمينيا. يضاف إلى ذلك أن الأرمن فضلوا البعد عن العمل السياسى وهذا غريب بالنظر إلى نشاطهم السياسى فى نهاية القرن التاسع عشر حين كانت مصر جزءا من الإمبراطورية العثمانية وبدا إسهامهم محدودا فى الحركة اليسارية التى انغمس فيها اليهود بقوة.
***
كان ممتعا أن نعيش طيلة مدة العرض مع مصر التى نحبها، مصر الأرمن واليونانيين والمسلمين والمسيحيين واليهود، مصر المذاهب المختلفة والطوائف المختلفة، مصر الطبيعية لا التفصيل. لكن كثرة اللقاءات الشخصية جعلتنى أفقد القدرة على التركيز أحيانا وكنت أفضل أن بعض القضايا التى أثيرت فى الندوة التى أعقبت الفيلم تُضَمَن فيه كقصة اكتساب الجنسية المصرية ففيها تفاصيل طريفة أو كقصة تبرع المصريين للمهاجرين الأرمن فى 1915 ففيها معنى بديع. ومع أن تلقائية كل متحدث كانت طبيعية فوصف من وصف 1952 بالانقلاب وتعامل من تعامل مع حركة الضباط الأحرار بحياد، إلا أن هذه التلقائية أدت إلى التداخل والتكرار. أختم بجملة لسيدة أرمنية خفيفة الظل فى عقدها الخامس أحببتها جدا «أنا مصرية مية فى المية وأرمنية مية فى المية حد عنده مشكلة يروح يكلم أبويا»، وأدعو كل من يحن إلى هذه المصر المحبة المضيافة إلى حضور العرض الثانى للفيلم يوم 29 مارس فى قاعة إيوارت بالجامعة الأمريكية.