أريد أن أتكور فى وضعية الجنين وأختبئ فى حضن أمى
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 16 مارس 2022 - 10:15 م
بتوقيت القاهرة
هو ذلك المكان الذى لا يضيق مهما كبرت، حضن قد لا ألمسه فعليا لكنى أعود إليه كل ما ضاق بى العالم وضغط على رقبتى. هى وضعية فى عقلى أكثر منها فى جسدى، أنغلق فيها على نفسى ويتكور ظهرى فيلتصق ذقنى بعظمة الصدر وتقترب ركبتاى من صدرى أيضا حتى أكاد أتوقف عن التنفس. أُصبح إذا كالكرة أعطى ظهرى للعالم وأنا أنظر إلى الداخل كالقنفذ، أنفش شوكى على كل ما حولى لأرفض قسوته. وها هى أمى تطوق شوكى بجسدها فتشكل حاجزا طريا يمنع عنى العاصفة، غير آبهة لما يسببه الشوك من ألم ودم على جلدها.
• • •
هكذا إذا، فى لحظات أشك فيها بقدرتى على المواجهة، أعود إلى وضعية الجنين وأدخل فى رحم أمى، أو هذا ما أشعر به كل مرة. أشد الستارة لتحجب الضوء وأختفى تحت اللحاف فى مكان آمن فأسمع صوتها المطمئن. يقال إن هذا هو شعور الأجنة فعلا وهم بانتظار الخروج إلى الحياة. صوت بعينه يصلهم طوال الأشهر التسعة وحركة مستمرة يعتاد قلبهم على مجاراتها فيكتسب إيقاعا يتماشى مع قلب من يحملهم. يتحركون داخل أمهاتهم كما يهيأ لى أننى أتحرك الآن داخل أمى، بعد سنوات طويلة قضيتها خارجها ها أنا أعود إليها.
• • •
فى الأشهر الماضية عدت إلى رحم أمى عدة مرات أثناء محاولاتى الهروب فأدخلتنى دون سؤال وكأنه مكانى الطبيعى رغم سنوات من الترحال والتجارب والأمومة خاصتى. فى المساء حين تطلب منى ابنتى أن أجلس معها فى سريرها حتى تنام، أكور أنا الأخرى جسدى حول جسمها الصغير وأنظم تنفسى ليتناسب مع إيقاعها. أنا أمها لكنى آخذ هدوئى منها، فى تلك الدقائق الأخيرة بعد يوم صاخب حين تسترخى الصغيرة وهى تكرر أنها تحبنى. أبقى قربها بعد أن تنام فأستمد منها الراحة والطمأنينة. كل دقيقة أقضيها فى سرير طفلتى النائمة هى كفيلة بأن تمدنى بسنة من راحة البال.
• • •
ها أنا إذا أستمد طاقتى من أمى وابنتى، أنا أغلق جسدى فى الحالتين وأتكور كالجنين فأعود إلى داخل أمى مع ابنتى فى حضنى، ننصهر ثلاثتنا فى جسد واحد لا يمكن إلا أن يعطينى ما أحتاجه من ثقة فى ساعات الشك والتخبط. أنظر إلى ابنتى النائمة وأفهم دهشة من حولى من الشبه بيننا، تماما كمن يؤكدون أننى بت أشبه أمى حين كانت فى عمرى. ها نحن إذا ثلاثى مترابط كحبات سبحة تمر يد عليها تتمتم صاحبتها بتعويذات أريد أن تحمينا ثلاثتنا من الأذى.
• • •
فى الأسابيع الماضية فكرت كثيرا بمفهوم المكان الآمن فوجدته حيث تكون أمى. أظن أن فى العقل البشرى نقطة لا عقلانية قد يصفها البعض أنها غريزية تظهر على السطح حين يحتاج أحدنا للأمان. هى مساحة مفتوحة أقفز فيها فتنكمش من حولى حتى لا أرتطم بالأرض. أتأرجح بين السماء والأرض فى شبكة أنقذتنى من السقوط، هذه هى الأم، هى رحم ينفتح وينغلق طوال حياتها حين أحتاج أن أختبئ من العالم. أنظر إلى ابنى الأكبر الذى اكتسب أولى سمات الشباب وأراه يخلق لنفسه مساحة خارج رحمى بجسده اليافع وصوته المتغير. قال لى الأسبوع الماضى «بحبك ماما» دون أن أطلب منه ذلك فشعرت بقلبى يفتح يديه ليضم ذلك الشاب الذى عاد طفلا لثوانٍ!
• • •
حين أشك بأن ما أمامى هو طريق من النور، أتلمس الحجارة التى تركتها أمى لتدلنى على المسار. حين يظلم ما حولى، أسمع تعويذاتها تصلنى من مكان خفى. حين أخاف من الأشباح، تزيحهم عنى بحركة من يدها. حين أتلكأ تنهنى بحزم فأقرر. حين أتعب، يصبح كتفها مخدة من ريش أسند رأسى عليها فأنام بعمق وتتوقف هى عن الحركة. فى الأسابيع الماضية عاد مفهوم «البيت» ليرسم بيتها هى، فتأكدت أن بيت الأم هو كالرحم، بابه مفتوح كباب قلبها. شعرت أننى أريد أن أكون هناك فى غرفة المعيشة الهادئة حيث تجلس أمى فى الصباح لتتفقد الأخبار على شبكات التواصل الاجتماعى فتعلق كل حين على قصة جديدة وأتفاعل معها. ثم أريد أن أكون هناك بعد الظهر فى الغرفة ذاتها حين تسدل أمى الستارة قليلا منعا للوهج فأنام فى منتصف حديث وكوب الشاى قربى يبرد.
• • •
بيت الأم بابه دوما مفتوح كما هو قلبها، لا تمنعنى من الخروج وتنتظرنى لأعود. هو ذلك المكان الآمن حيث رائحة الثياب المغسولة وصوت الماء يغلى قبل أن ترمى فيه الشاى. بيت الأم هو حديث لا ينتهى حول فناجين من القهوة تمتد عبر السنوات والقارات. بيت الأم هو عودة إلى رحمها حتى بعد أن كش جسدها فصرت أستطيع أن أطوقها بجسمى إلا أن التطويق هو اختصاصها. كل سنة وأنت سالمة يا قلبى!
كاتبة سورية