حديث الهوية والتمييز والحداثة
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
الثلاثاء 16 أبريل 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
الديمقراطية والحداثة صنوان، الجوهر فيهما هو قبول الآخر المختلف، واحتمال أن يكون هذا الآخر على حق، والشك فى السلامة المطلقة لأفكار الذات وقيمها. هذا الجوهر يترجم فى الديمقراطية بالتعدد وبقبول تداول السلطة باعتبار أن سلامة الأفكار نسبية، وأن الناس قد يغيرون مواقفهم من الأفكار بمرور الزمن، كما أن الأفكار نفسها قد تتغير مع الوقت ومع التبدِل فى البيئة التى تنتج فيها وتنطبق فى داخلها. أما فى الحداثة، فترجمة هذا الجوهر هى الشك الذى حتَم الأخذ بالمنهج التجريبى فى انتاج المعرفة، نفس المنهج الذى استحدثه العرب وغيرهم من المسلمين، ومكَنهم من أى يتركوا أثرا لا ينمحى فى تاريخ العلم والحضارة. وفى الحداثة أيضا، هذا الجوهر يجعل الحكم على الإنسان بقيمة ما يفعل، وليس بمن هو حسبا ونسبا، أو هوية. الديمقراطية والحداثة هما اللذان انتجا التقدم الذى نصبو إليه والذى مكَن غيرنا من التحكم فى حيواتنا ومصائرنا. الاستعمار والتبعية هما نتيجتان للتخلف ولعدم الأخذ بأسباب الحداثة وليس العكس. الاستعمار ميَز ضد الشعوب المستعمرة واستغل مواردها ولم يبال بلحاقها بمستوى تقدمه ونتجت عنه حداثة مشوهة وقشرة تخفى التخلف فى داخلها. غير أنه يبقى أن عدم انتهاج منهج الحداثة لقرون طويلة كان السبب فى التخلف الفكرى والعلمي وبالتالى فى الوهن الذى مكن الاستعمار من بلادنا. فليوجه النقد إلى الديمقراطية والحداثة من أجل تصحيح مسار تجربتهما التاريخية وإثرائه. أما جوهر الديمقراطية والحداثة، فلا بد من الحرص عليه لأنه دليلنا إلى الانعتاق من تخلفنا.
المؤسف هو أنه فى مصر، فى الوقت الحالى، بدلا من التمسك بأسباب التقدم معاول الهدم تعمل عملها فى مفاهيم الحداثة. الإبراز هو للهويات والتأكيد لها أيضا. فى الدستور وفى الممارسة اليومية التى تجد منطقها فى الدستور يتعزز تمييز المصريين على أساس هوياتهم الدينية، وإن رجعت هذه الممارسة، وللحق، لعشرات السنين الماضية. الدستور يفرز المصريين المسلمين عن المسيحيين وهو ما لم تعرفه مصر فى أى دستور من قبل. فى التحضير لصياغة دستور سنة 1923، رفض المصريون الأقباط اعتبارهم طائفة فصاروا أمام القانون الأسمى والقوانين الأدنى منه مواطنين مثل المصريين المسلمين وإن تباينت معتقداتهم الدينية أمام الله. فى الدستور أيضا وفى خطاب أكثر جرأة فى كل يوم تشديد على الهوية الدينية الإسلامية لمصر بل ومع تقييد مجالها لتصبح هوية مذهبية. إذا جمعت تمييز المواطنين على أساس انتمائهم الدينى على التشديد على الهوية الإسلامية لمصر وحدها، فإنك ستجد وللأسف ما يفسر الحالات المتكررة لازدراء العقيدة الدينية لمواطنين لا يشتركون فى الهوية الدينية للأغلبية وللتحرش بهم وإيذائهم. هذا فى حقيقته رفض للتعدد والتنوع والانفتاح ونكوص عن نفس تاريخ الحكم فى الإسلام فى عصور دوله المتتابعة. انظر إلى التركيب الدينى والعرقى للأراضى التى حكمتها الدول الإسلامية انتهاء بالعثمانية فيها. لم تكن المساواة تامة بين كل رعايا هذه الدول وهى لم تكن موجودة فى أى مكان فالبشرية لم تكن قد وصلت بعد إلى مبدأ المساوة التامة بين الناس، ولكنك ستلحظ تنوعا، يوحى بالرقى، فى التركيب الدينى والعرقى لمن عاشوا فى ظل الدول الإسلامية على عكس ما كان من أحادية دينية فى أوروبا إن شابتها أقلية يهودية فهى مضطهدة صراحة وجهارا نهارا. قبول التنوع فى أراضى الدول الإسلامية هو ما شجع يهود الأندلس، الذين طردتهم فترة محاكم التفتيش مع من طردتهم من بلادهم من المسلمين، على أن ينتشروا حول البحر المتوسط فى أراضى الدولة العثمانية حيث عاشوا مرحبا بهم إلى أن قامت دولة على أساس الدين على أرض فلسطين.
●●●
المذهبية هى صراع الهوية الثانى الذى يصرُ فريق من ممارسى السياسة فى مصر فى الوقت الحالى على الزج بالبلاد فيه. فى اختراع لصراع غير موجود فى مصر، يراد لها أن تقع فى أتون مواجهة بين المسلمين السنَة والمسلمين الشيعة. يرفض هذا الفريق وجود مواطنين إيرانيين من المسلمين الشيعة على أرض مصر لمجرد أنهم من الشيعة. النظر إلى الإنسان على أساس من هو، وليس على أساس ما يفعل، هو منهج ما قبل الحداثة الذى ما كان المتقدمون من البشر قد تقدموا إن لم يتخلوا عنه. الحريصون على افتعال هذه المواجهة يدعون إلى وحدة الأمة، ولكنهم يقسِمونها على أساس مذهبى خشية انتشار المذهب الشيعى! هم لا يلتفتون إلى أن المصلح جمال الدين الأسد آبادى الإيرانى، والملقب بالأفغانى، لم توجه إليه التيارات المحافظة قط تهمة نشر المذهب الشيعى ضمن ما وجهت إليه من اتهامات. وتصاهرت الأسرتان الملكيتان فى إيران ومصر فى أربعينيات القرن الماضى ولم يندد أحد وقتها بخطر التشيع وهو لم يحدث. وفى مصر أسر كثيرة من أصول إيرانية، صار إسلامها مثل إسلام بقية المصريين عندما حلَت بمصر، ولم يسمع عنها أنها مارست إسلاما شيعيا. ألم تكن قرينة الرئيس جمال عبد الناصر من أصول إيرانية؟ لم تمنع هذه المصاهرة الخلاف بين الرئيس المصرى وشاه إيران، ولكنه كان خلافا سياسيا حديثا يرجع إلى سياسات الشاه، أى إلى ما فعله، وليس إلى من هو. ثم هل المذهب هو الهوية الوحيدة للمسلم الإيرانى أو المصرى أو الإندونيسى أو السنغالي؟ أليسوا أولا مسلمين وأليسوا أيضا شرقيين أو شرق أوسطيين أو أفارقة وآسيويين وفى النهاية وقبل كل شىء ألا ينتمون إلى البشر؟ ومن أدراك أى هوية يقدمونها على الأخريات؟ هل ترتيب الهويات هو نفسه لدى المصرى، والإيرانى، والجزائرى، والصومالى، والماليزى، والأرجنتينى والسنغافورى المسلمين؟ وهل هذه الهويات وترتيبها جامدة لا يلحق بها تطور؟ يصل الفرز المذهبى إلى منتهى عبثه عندما تقرأ، هجوما على قانون الخلع، أنه أخذ بالفقه الحنفى، مذهب الدولة العثمانية، وهو ليس مذهب أغلبية المصريين!
المدهش حقا هو أن المتقوقعين حول الهوية، المزدرين بالآخرين، يقتفون أثر المسيحية الأوروبية ويتمثلونها. إنهم يرسمون للمسلمين طريقا هى نفس طريق الكوارث التى سلكتها المسيحية الأوروبية فى القرنين السادس عشر والسابع عشر عندما تعددت الحروب بين الكاثوليك والبروتستنانت فى غرب أوروبا ووسطها وشمالها لما يربو على القرن ونصف القرن، حتى وصلت إلى ذروتها فى حرب الثمانين عاما فى الأراضى الواطئة، وحرب الثلاثين عاما فى الأمبراطورية الرومانية المقدسة، أى فى الأراضى الواقعة اليوم فى ألمانيا والنمسا وغيرها من إقليم وسط أوروبا. استنزفت هذه الحروب القارة الأوروبية وشعوبها، وهو استنزاف فرض، ويا للمفارقة، إنهاء عصر الدولة القائمة على أساس الدين والمذهب فى أوروبا وقيام الدولة الوطنية بديلا عنها، بإبرام سلام وستفاليا فى سنة 1648، هذه المعاهدة التى أصبحت حجر الأساس فى النظام الدولى الحديث فى أوروبا ثم فى غيرها من القارات. أوجه نقد كثيرة يمكن توجيهها للنظام الدولى ولمفهوم الدولة الحديثين، ولكن الشىء المؤكد هو أنه ينبغى أيضا استخلاص العبر من تجربة أوروبا بدلا من تمثل عداواتها واقتتالها.
●●●
الصراع المذهبى سيخفت إما لأنه ليس موجودا أصلا أو بفعل الحريصين على مستقبل مصر وشعوب منطقتها الذين ينبغى عليهم أن يتجمعوا أيا كانت اتجاهاتهم السياسية. أما التحرش بالمواطنين المصريين الأقباط وخنقهم فى صندوق الطائفية فهو الأخطر على مستقبل مصر، هو الذى سيهوى بمكانتها فى النظام الدولى لأنها ستخرج به على مبادىء الدولة الوطنية وهو تحرش يؤدى إلى صراع سيبتعدا بمصر عن منهج الحداثة، المنهج الوحيد الذى سيمكنها من الانعتاق من التخلف والقضاء على الفقر والوصول بالمصريين إلى مستوى معيشة لائق.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة