«بريد الليل» والرسائل التى لا تصل
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 16 أبريل 2019 - 10:10 م
بتوقيت القاهرة
سواء فازت الكاتبة اللبنانية هدى بركات بجائزة البوكر للرواية العربية عن روايتها «بريد الليل» أو لم تفز سيبقى اسمها علامة جودة لأى عمل تكتبه، فهى باختصار خارج المنافسة، لأنها ببساطة من الكاتبات اللواتى يرسمن دائما المسار الذى يسهل تمييزه من بين كل المسارات.
وهى بالاصطلاح الدارج كاتبة من طراز خاص «نسيج وحده» ولغتها قطعة حرير ليس للقارئ أن يتفادى أثرها الشفيف وهو يعبر بين مفرداتها التى تشرق فى الروح وتنهض بفضلها كل الحواس.
لغة لا تشبه أى لغة ولعلها تذكر بالجملة البديعة التى كتبها محمود درويش حين قال «يختارنى الإيقاع/ يَشْرَقُ بى/ أنا رَجْعْ الكمان، ولستُ عازِفَهُ» وفى «بريد الليل» تحديدا تلعب اللغة دورا رئيسا بفضل التناغم الايقاعى الذى فتشت طويلا عن معنى يقربنى مما شعرت به عبر أكثر من قراءة العمل، فوجدت أن الأقرب لما أشرت به كلمة (نيانس) وهى مفردة فرنسية كتب الملحن أشرف السركى أنها من اكثر التعبيرات الموسيقية شمولا لمجمل الطرائق والحركات اللحنية والتناوب بين الدرجات المختلفة من السرعة والبطء والقوة والضعف (الكريشندو والدمنوندو والاكسنت والليجاتو) وهذا ما فعلته بركات فى الانتقال بخفة بين أصوات أبطالها والانصات لمختلف أشكال المعاناة التى عاشوها وان كان «الدمنوندو» القائم على خفوت الإيقاع والاختفاء التدريجى للصوت هو الذى يتجلى فى النص الأخير حين يستسلم «البوسطجى» بعد شيوع الحرب للحظات النهاية وانطفاء العالم وإيمان الناس بأنه لا أمل فى وصول رسائلهم.
كتبت بركات روايتها «بريد الليل» وهى تعرف أنها تخوض مغامرة كسر البنية التقليدية التى تعتمد على تطوير الأحداث أو الشخصيات، واختارت ان تبعد عن عالمها ذلك القارئ الكسول الذى يخضع الكاتب لرغباته وراهنت على قارئ آخر لديه القدرة على الاستمتاع بالعالم الذى يخلقه الكاتب ويتورط فيه دون أن يشاركه فى القفز إلى النهاية.
استعارت الكاتبة أصوات أبطالها وتقنعت بأقنعتهم المختلفة وخاضت فى ظلام أرواحهم، لتكتب حكايات تبدت كمرايا متجاورة تؤكد الارتكاز على بنية أكثر ما تسعى لنسفها، فالحكايات تبدو منفصلة فى الظاهر لكنها فى الباطن ليست كذلك، ففى كل رسالة جملة تصل بها للعالم المفقود فى الحكاية التى تسبقها وتبدو الرسالة حيلة لتعرية الذات.
تظهر الرسائل التى لم يعد لها وجود فى عالمنا المعاصر وحشة الفقد وشيوعها فهى موجهة لأطراف مختلفة، منها ما هو مكتوب من عاشق أو عاشقة ومنها ما هو موجه لأم أو لأب أو لشقيق من شقيقته وكل رسالة تكشف ما يعانى منه هؤلاء وهى فهارس لندوب وجروح بعضها مشترك، والبعض الآخر ليس كذلك لكن ما يشترك فيه الجميع هو بلوغ الخذلان وادراك التخلى، وسط عالم من الوحشة تأسست ملامحه انطلاقا من الفراغ الذى يبدو سيد الخيال والمعانى.
تسلم كل رسالة لأخرى كأنها درجة سلم تصعد بروح قارئها إلى الأعلى وبعضها درجة للتعثر ينزلق معها إلى متاهة من خراب متواصل تلتبس فيه الهويات وتتهاوى لتصبح الأجساد كلها ارشيفات لألم لا ينقطع.
أغلب أبطال الرسائل نزعوا أوراقهم الثبوتية واصطنعوا هويات بديلة تتيح لهم الذهاب لما هو أبعد والتخلى عن الماضى لكن حيواتهم القديمة امتلأت بخيبات وخوف مريع وبدا الموت معها قريبا ومحتملا بشدة، أو كما تعبر بركات «ساعة لا يعود القلب سوى مضخة للاستعمال المفيد، لتمرير دم يدفق بقوة فى الأعضاء من أجل الهرب، لا من أجل أى شىء آخر سوى الهرب».