المطلوب يسار جديد فى مصر
مصطفى كامل السيد
آخر تحديث:
الإثنين 16 مايو 2011 - 8:39 ص
بتوقيت القاهرة
تذكرت هذا الأسبوع، غلافا لمجلة الإيكونوميست البريطانية، والمعروفة بميولها المحافظة. كان ذلك فى سنة١٩٩٠، سنة سقوط الأنظمة الشيوعية فى دول شرق أوروبا، كان غلاف هذه المجلة يحمل صورة كارل ماركس، وكان المقال الافتتاحى يؤكد أنه والنظم الشيوعية تتساقط واحدا بعد الآخر، فإن النظم الرأسمالية تفتقد كارل ماركس، وكانت الحجة التى ساقها كاتب المقال هو أن النقد اللاذع الذى وجهه كارل ماركس للرأسمالية قد أفاد هذه النظم كثيرا، فقد كانت تعانى من الأزمات، والتى نتجت بالضرورة عن هذا التناقض الصارخ الذى تعرفه الرأسمالية بين قدرتها الهائلة على زيادة الإنتاج وتطويره، والطرح المستمر لكميات هائلة من السلع والخدمات من ناحية، وعجزها عن توليد القوة الشرائية لاستيعاب هذه السلع والخدمات من ناحية أخرى، ومن ثم تتكرر فيها الأزمات، ما بين أزمات دورية قصيرة الأجل، وأزمات أعمق طويلة الأجل، مثل أزمة الكساد الكبير التى ضربت الاقتصادات الرأسمالية الكبرى فى سنة ١٩٢٩ ولم تخرج منها إلا باندلاع الحرب العالمية الثانية، وذهب كاتب المقال إلى أن النقد الذى وجهه ماركس للرأسمالية مكنها من ابتداع الحلول لهذه الأزمات، وخصوصا من خلال قبول تدخل واسع من جانب الدولة فى الاقتصاد، وإقامة ما عرف بدولة الرفاهة، والتى تقدم للمواطنين خدمات التعليم والصحة والسكن مجانا أو بأسعار رخيصة، وتوفر لهم الإعانات فى حالة البطالة، ومثل هذه الإصلاحات التى أدخلتها النظم الرأسمالية، مكنت الاقتصادات الرأسمالية من تجنب أزمات اقتصادية كبرى طوال فترة الحرب الباردة بل عقد ونصف العقد من الزمان بعدها، وتساءلت المجلة فى أوائل التسعينيات عن تلك القوة المحفزة على التجديد والتكيف التى قد تعرفها الرأسمالية بعد اندثار التحدى الذى كان يمثله وجود المعسكر الاشتراكى، والتضاؤل المتوقع فى تأييد الناخبين للأحزاب الاشتراكية والشيوعية التى تستلهم أفكار كارل ماركس..
•••
القصة بعد ذلك معروفة، وكما لو أن الصحيفة البريطانية العريقة كانت تتنبأ بالمستقبل، فقد عرفت الاقتصادات الرأسمالية أزمات متكررة، كان آخرها حتى الآن تلك الأزمة التى تصاعدت منذ صيف سنة ٢٠٠٨، ودفعت ساركوزى للتساؤل بانزعاج عن مستقبل النظام الرأسمالى ذاته، وجعلت أوباما يستلهم أفكار كينز، وهو مفكر رأسمالى عانق بعض تحليلات ماركس عن أسباب الأزمة فى الدول الرأسمالية، وطرح مخرجا من الأزمات يتمثل فى المزيد من تدخل الدولة، طبعا لم تلق كل أفكار أوباما هذه قبولا من الدوائر المحافظة فى الحزب الجمهورى الذى ينافسه، فخفف كثيرا من مقترحاته الإصلاحية، ولكن ذلك وإن قلل من حدة الأزمة على الشركات الأمريكية الكبرى، إلا أن ثمن التراجع عن الإصلاح هو بقاء معدلات بطالة تصل إلى ما يقرب من عشر القوى العاملة فى الولايات المتحدة، كما ارتفع عجز الخزانة إلى حدود غير مسبوقة فى تاريخها، ولا يمكن الولايات المتحدة من العيش بحجم استدانة هائلة من الدول الأخرى، وفى مقدمتها الصين واليابان، ولكن الأزمة ضربت بشدة اقتصادات رأسمالية أخرى فى إيرلندا واليونان والبرتغال، ولاتزال تهدد اقتصادات إسبانيا وإيطاليا، وأجبرت حكومتى فرنسا وبريطانيا على اتخاذ خطوات تقشفية تجنبا لتفاقم هذه الأزمة، وفى الحقيقة لا يبدو أن هناك علاجا ناجعا فى تلك الدول الرأسمالية المتقدمة، ولذلك شهدت السنوات الأخيرة نمو حركات اجتماعية معادية للرأسمالية وللعولمة فى ذات هذه الدول.
هل هذا الحديث يهمنا؟
يضج البعض بالشكوى من المثقفين الذين يستغرقون فى الاهتمام بما يدور خارج حدود بلادهم، وينصرفون عن مشاكل السلفيين والكنيسة السيدات اللاتى يقال إنهن تركن المسيحية وانتقلن إلى الإسلام، هذه الأسباب تحديدا هى التى تدعونى أن أشدد على الحاجة إلى يسار جديد فى مصر، لأن اليسار لا يؤمن بأى تفرقة بين البشر على أساس الدين أو اللغة أو المذهب أو العرق، وهو الذى يرى الإنسانية عائلة واحدة يجب أن تسودها الأخوة والمحبة، وقد انتهت أكذوبة العداء بين اليسار والدين، فقد خرج قساوسة فى أمريكا اللاتينية يحاربون الظلم الواقع فى بلادهم ويدعون إلى المساواة الاجتماعية والأخذ بالإصلاحات الزراعية، بل كان فى عالمنا الإسلامى فصائل فى إيران تبنت الدعوة للعدالة الاجتماعية هى فصائل مجاهدى خلق، ومن بين كل القوى السياسية والفكرية فاليسار هو الأكثر اهتماما بقضايا العدالة الاجتماعية والاستقلال الوطنى ومكافحة الاستعمار، وهى القضايا الأهم فى مجتمعنا الذى يعانى من اتساع الهوة بين قلة مسرفة فى الثراء، وأغلبية تعانى شظف العيش، ومن سيطرة قوى دولية على قراراتنا السياسية والاقتصادية، واليسار الجديد هو الذى لا يسقط فى فخ استغلال الدين تحقيقا لأهداف سياسية، كما أن اليسار هو الأكثر إيمانا وانفتاحا على العلم فى جميع المجالات.
•••
ماذا عن حزب اليسار الرسمى، وماذا عن هؤلاء الذين رفعوا الرايات الحمراء فى ميدان التحرير يوم أول مايو، وماذا عن أربع أحزاب تحت التكوين تجمعت فى إطار ما سمته جبهة القوى الاشتراكية، ما أقصده ليس مجرد وجود «دكاكين» تحمل مسميات يسارية وتبيع بضاعة لا يقبل عليها الجمهور، وإنما أعنى وجودا فاعلا على مسرح السياسة والفكر والمجتمع فى مصر لتيار يجمع المثقفين والجماهير فى وحدة رائعة تنشر قيم الإخاء الإنسانى والاستنارة والعدل، وليس مجرد تجمعات للمثقفين والقيادات العمالية من أصحاب النوايا الحسنة، أو من الذين يقنعون بصفقات خاسرة مع السلطة لأنهم افتقدوا أى عزيمة نضالية أو أى إبداع تنظيمى. وأمام هذه التجمعات الصغيرة الناشئة طريق طويل قبل أن تصبح مثل هذا التيار الفاعل، وفى هذا الطريق عليها أن تجتاز العديد من العقبات من بينها مراجعة فكرها الاقتصادى والعدول عن ترديد المحفوظات القديمة عن ضرورة الملكية العامة لكل وسائل الإنتاج، طبعا وسائل الإنتاج الرئيسية من مصارف وشركات تأمين والصناعات والمرافق الأساسية يجب أن تكون ملكا للدولة أو للرأسماليين المصريين، ولا يجب أن تكون ملكية الدولة مجرد شعار، وإنما يجب أن تثبت الدولة أنها أقدر من أصحاب المشروعات الخاصة على إدارة هذه الصناعات والمرافق، وفى ظل الاقتصاد المختلط فى مصر، فلن يكون التخطيط المركزى هو الأسلوب العام فى إدارة الاقتصاد، وإنما ينبغى الاستعانة بأساليب «التخطيط التأشيرى» كذلك طبعا مع إقرار ضرورة تعدد أشكال الملكية فى الاقتصاد، وعلى دعاة هذا اليسار الجديد أن ينكبوا على استيعاب ثقافتهم الوطنية بكل فروعها بما فى ذلك تراث مصر الدينى الثرى، وأخيرا وليس آخرا على هؤلاء أن يوجدوا وسط الناس
•••
أؤكد أنه لو انتشرت أفكار هذا اليسار الجديد فى المجتمع، لما تكررت تلك المشاهد البغيضة حول كاتدرائية الأقباط ولا الاعتداءات على الكنائس، ولتوجهت اهتماماتنا لما يخدم المصلحة الحقيقية للوطن، إن التغلب على العقبات التى ذكرتها ليس سهلا على الإطلاق. وأوضاعنا الراهنة تستحق منا أشد الاجتهاد، حتى تتفتح فى حديقة الوطن مئات الزهور.