حديث فى المنهج: الفرق بين التنوير والتدليس
عبد العظيم حماد
آخر تحديث:
الخميس 16 مايو 2019 - 10:00 م
بتوقيت القاهرة
بما أن التنوير يعنى رفض أية وصاية على العقل الفردى من خارجه، ويفترض قدرة كل إنسان فرد على الوصول إلى الحقيقة والسعادة باستخدام عقله، فإنه يفترض أيضا الالتزام بقواعد المنهج العلمى فى التحليل والاستنتاج، واتساق هذا المنهج دائما، خاصة لدى من يحملون ألقابا مثل المفكر أو الكاتب أو الفيلسوف، وغيرها مما يتشابه معها، أو يقترب منها.
وما دمنا نرفض الوصاية على العقل من خارجه، فيجب أن نقبل حرية كل شخص فى الاعتقاد الدينى والسياسى، وفى الدعوة إلى ما يعتقد أنه الصواب بشرط التزامه بقواعد المنج العلمى كما سبق القول، وعدم المغالطة أو التدليس المنهجيين لأسباب مثل حب الشهرة، أو ممالأة السلطات، أو التربح المالى، أو ابتغاء الحظوة لدى الجهات الدولية النافذة فى السياسة والثقافة، أو الكراهية المطلقة لجماعة، أو دين.
بديهى إذن ألا تثريب لدينا على منكر للأديان أو القوميات أو حتى للمذاهب السياسية التى نراها الأفضل كالديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، ما دام أنه قد وصل إلى هذه القناعة بمنطقه الخاص، وما دام أنه لا يخدع غيره على طريقة السوفسطائيين القدامى، وما دام يلتزم بالدستور والقوانين، ولكن التثريب كل التثريب يرد على كل أولئك الذين يمارسون المغالطة والتدليس للأسباب، التى ذكرناها فى الفقرة السابقة أو غيرها.
من هؤلاء أصحاب تفسير نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وما صحبها من صراعات وحروب بأنها ليست سوى إحياء مشروع جده عبدالمطلب بن هاشم لإقامة دوله قومية عربية، وهو المشروع الذى يقال إن عبدالمطلب اقترحه على الملك اليمنى سيف بن ذى يزن، وكأن محمدا (صلعم) كان مجرد نسخة قديمة من ميشيل عفلق، أو نجيب عزورى، أو ساطع الحصرى، أوكأن محمدا كان أول من دعا إلى دين توحيدى فى تاريخ البشرية.
كان يكفى لدحض هذه النظرية تذكر أن مقتضاها كان يحتم على جميع أعمام النبى، وعلى جميع الهاشميين حاملى إرث عبدالمطلب، ثم القرشيين الانخراط بسهولة فى الدعوة الجديدة، ولكن الذى حدث كان النقيض على طول الخط، فلم ينضم من أبناء عبدالمطلب إلى محمد سوى عمه حمزة، من باب الحمية ضد عدوان أبى جهل على النبى فى البداية، ثم عمه العباس بعد فتح مكة، بل إن العم الأكبر كافل محمد، وزعيم بنى هاشم (أبا طالب) لم يتحول إلى الإسلام، ومات على الكفر، رغم المحبة المتبادلة بينه وبين بن أخيه، وعلى الرغم من الحماية المطلقة والفعالة التى أسبغها على النبى، وليس عداء العم أبى لهب الشرس هو وزوجته لمحمد ودعوته مجهولا لاحد، وهو عداء وصل إلى إجبار ابنيهما على تطليق ابنتى محمد.
كذلك كان عداء الغالبية الغالبة من أبناء أعمام النبى لدعوته واضحة، وتجسده قصة النضر بن الحارث، أما عداوة قريش فى معظمها «لمشروع دولة محمد القومية العربية» فيشكل مجمل تاريخ هذه الدعوة حتى فتح مكة، من أول الاضطهاد والتعذيب، حتى الحصار لمدة ثلاث سنوات فى شعب أبى طالب، ثم الدعاية المضادة لدى قبائل العرب، وأخيرا إجبار المسلمين على الهجرة، والحروب من بدر إلى أحد إلى الخندق، والتحالف مع يهود يثرب، والقبائل المحيطة لاجتثاث المسلمين والإسلام.
فإذن كيف فات على قريش أن محمد يخطط لإقامة دولة تجعلهم أسياد العرب؟! سؤال لم يقدم أصحاب هذه النظرية إجابة مقنعة لهم، ولكنهم بدلا من ذلك ركزوا على ما حدث من بعد من تطورات سياسية واجتماعية دفعت بالقرشيين للسيادة على الدولة الناشئة، والاستئثار بمواردها، إلى حد الاستغلال الطبقى أحيانا، والاستعلاء العنصرى فى أحيان أخرى.
وفى نموذج آخر للتدليس باسم التنوير قال البعض إن اعتماد القرآن الكريم على العقوبات البدنية فى تشريعاته الجنائية ليس إلا انعكاسا لقسوة ووحشية الحياة والطبيعة فى مكة المكرمة، وامتدادا لنمط معيشة قبلية يقوم على القتل والثأر والسلب والنهب، أى إنها نتاج طبيعى للبيئة الجبلية الصحراوية، والأعراف والعادات الاجتماعية، وقد رددت على القائل بهذه الرؤية بأن تشريعات حمورابى فى بيئة زراعية حضرية فى بلاد الرافدين كانت تنص على هذه العقوبات، وبأن توراة بنى إسرائيل فى بيئة مختلفة سواء فى مصر، أو فى فلسطين قد نصت عليها أيضا، وأن الفكر الحديث قد أسمى هذه العقوبات بأنها جزء من القانون الطبيعى، بغض النظر عن الجدل حول ملاءمتها للعصر الحديث أم لا؟
كما رددت على حديثه عن ما سماه وحشية العرف الاجتماعى فى مكة وبيئتها القتالية قائلا إن مكة بالذات كانت استثناء من كل ذلك، فقد كان القتال فيها محرما، وإنها اعتمدت فى حياتها التجارية على «الإيلاف» أى التحالف الذى أقامه هاشم بن عبدمناف مع قبائل الشمال والجنوب لتأمين رحلتى الشتاء والصيف، وأضفت أن العرب كانوا يتندرون على عدم إتقان قريش للحرب، مثلما كانوا يتندرون على عدم نبوغها فى الشعر، المتصل عضويا بفكرة الحرب (حتى إن جرير لم يعترف بشاعر قرشى سوى عمر بن ربيعة قائلا: ما زال هذا القرشى يهذى حتى قال شعرا).
وفى حرب الفجار التى تعد أشهر حرب وقعت فى مكة انهزمت قريش أكثر من مرة، ثم إن هؤلاء يتناسون حلف الفضول الذى تأسس لنصرة المظلومين فى مكة قبل الاسلام، فكيف يستقيم أن توصف هذه البيئة الاجتماعية بالوحشية والعنف، وأن يستخدم هذا الوصف باعتباره مصدر التشريعات الجنائية فى الاسلام.
كان أكثر ما أدهشنى من ردود هذا القائل وأشياعه على مداخلاتى أنهم حدثونى عن عبس وذبيان، والبسوس وغير ذلك من أيام العرب الحربية دون التفات عن عمد لخطأ تشخيصهم لأحوال مكة، ومن سمى خطأ نظريتهم فى تفسير العقوبات البدنية فى القرآن الكريم، فإذا لم يكن هذا تدليسا باسم التنوير، فماذا يكون التدليس، ولكن بالطبع دون مصادرة منا على حق أى إنسان فى رفض ما يريد أن يرفضه، ما دام متسقا فى منهجه، دون خداع أو تدليس، ودون إنكار حق الاجتهاد فى تطبيق الحدود عند من يستوفى شروطه من المسلمين.
نموذج ثالث يتمثل فى القائلين بتاريخية النص القرآنى، فهم لا يطبقون هذا المنهج على ما يصفونه «بمسبة» إقرار الاسلام للرق، إذ يقتضى منهجهم قبول هذا الإقرار بسبب رسوخ هذه الممارسة وانتشارها، لأنه يستحيل عقلا إبطالها أو الحد منها دون تدرج فى وقت يشتد فيه الصراع حول فكرة التوحيد الإلهى نفسها، ثم يتجاهل هؤلاء أن الاسلام حرّم كل مصادر الرق إلا الأسر فى الحروب، ثم حث على المن على الأسير بالحرية، أو قبول الفدية، إلى سائر ما هو معروف من الكفارات عن الذنوب بتحرير الرقاب، وقصارى القول فى مسألة الرق كغيرها من التطبيقات الاجتماعية الجدلية كتعدد الزوجات إن الاسلام لم يوجب هذه التطبيقات كركن من أركانه، بل أباحها فقط، بمعنى أن المسلم يكون مسلما صحيح الاسلام دون أن يعدد الزوجات، أو يقتنى رقيقا بل الأفضل ألا يفعل ذلك، أعود فأذكر أننى أتحدث فى المنهج فى المقام الأول على الرغم من الاستطراد السابق.
من الصعب استقصاء كل حالات التدليس باسم التنوير، ولكن بوسع القارئ أن يقيس على ذلك كثيرا من «الفرقعات التليفزيونية» التى تقال سعيا وراء جائزة دولية، أو اجتزاء لواقعة هنا أو هناك فى التاريخ من سياقها سابقا ولاحقا، حين يعترف صاحب هذه الواقعة بأنه أخطأ، أو بسبب الانخراط فى ترويج سياسات معينة فى الاقليم، وبالطبع لا يقل فداحة عن ذلك ما يرتكبه المتطرفون والمتنطعون باسم الاسلام من شرور ومفاسد وكراهية ومغالطات وتدليس.. ولهذا حديث آخر.