الغنوشىّ.. والاختبار العسير
صحافة عربية
آخر تحديث:
السبت 16 مايو 2020 - 7:50 م
بتوقيت القاهرة
نشرت جريدة المغرب التونسية مقالا للكاتبة «آمال قرامى».. جاء فيه ما يلى.
تحتفظ الذاكرة الجمعية للتونسيين، وأرشيف الفيديوهات بتصريحات الغنوشى عندما وطأت أقدامه أرض الوطن 2011.
يومها أعلن الرجل عن «زهده» فى السلطة و«تعفّفه» عن تقلدّ المناصب السياسية فى الحكومة أو الترشّح للرئاسة. وقد حرص العائد من منفاه على «طمأنة» التونسيين ديدنه فى ذلك من قالوا «اسمعوا منّا ولا تسمعوا عنّا»، فادّعى أنّه سيكتفى بهيكلة حركة النهضة حتى تحتلّ موقعها فى البلاد وسيبقى «الشيخ المؤسس والحكيم والمفكّر». ولكنّ ظهور الحركة على الركح السياسى جعل التونسيين يكتشفون الغنوشى فى صورة «مهندس» التحولات و«مدبّر» السياسات والبرامج و«مخطّط» التوجهات و«صانع» المفاجآت والصدمات.. ولا عجب فى ذلك فإغراء السلطة لا يقاوم (و«كلام الليل مدهون بالزبدة»). ثمّ مرّت السنوات لينتقل الغنوشى وبالتدريج، من العمل فى الخفاء إلى الظهور فى العلن فى صورة «الحاكم» الذى يمسك بخيوط اللعبة.
يتمثّل أنصار النهضة الغنوشى فى صورة الزعيم «المقدّس» والمخلّص من القهر والغبن فيتبرّكون به لثما وعناقا و... ويستأسدون فى سبيل الدفاع عنه حتى وإن اقتضى الأمر الخروج عن الآداب.. ولكن على مرّ السنوات تغيّرت الصورة واختلف الأنصار حول زعيمهم فصار لدى بعضهم «معرقل الإصلاح» و«الممتنع عن ترسيخ التداول» و«المستبدّ بالرأى» و«ناقض العهد».. وصار الصراع الداخلى بين الأجيال القديمة بتفريعاتها من جهة، وجيل ما بعد الثورة الذى ذاق حلاوة النصر من جهة أخرى. وهذا أمر له دلالته على مستوى التمثل إذ لم يعد الغنوشى مشيطنا لدى خصومه فقط بل صار خصما لدى فئة من أنصاره القدامى ولا عجب فى ذلك فرهانات السلطة كثيرة وإكراهاتها مريرة.
ولا يذهبنّ فى الاعتقاد أنّ صناعة صورة الغنوشى قد احتكرها الآخرون (الأتباع والإعلام، ومراكز البحث...)، فللرجل دور فى بناء الصورة التى يريد من الآخرين أن يروها أو يصدقوها، ولذلك أنفق الأموال وانتدب الشركات الخاصة وتعلّم فنّ البروز على الركح فى صورة الرجل «المنفتح». وبعد أن دعم الغنوشى قدراته وأتقن أداء مختلف الأدوار صار جاهزا للتموقع فى البرلمان حيث تُمرّر المقترحات والاتفاقيات وتُصاغ التشريعات وتُساءل الحكومات وتُصنع الائتلافات وتُحاك الدسائس والمؤامرات للإيقاع بالخصوم. ولكن هل أحسن الغنوشى الاختيار؟ وهل باستطاعته أن يخرج من الاختبارات العسيرة «مرفوع القامة»؟
لم تمرّ أشهر حتى تحوّل الصراع إلى مواجهة يومية بين النهضة وأذرعها والدستورى الحرّ، وبين داهيتين: الغنوشي/موسى. لقد ظنّ الغنوشى أنّ تموقعه رئيسا فى البرلمان بصلاحيات تفوق صلاحيات رئيس الدولة سيمكّنه من امتلاك السلطة ليصبح صاحب اليد العليا فى البلاد فى سياق صارت فيه المعارضة «فئة مستضعفة». وانطلاقا من ذلك التصوّر تحوّل مجلس الشعب إلى دولة داخل الدولة (تعيينات، ومناصب استشارية وعقود عمل وامتيازات..) وصار تسييره ينزع نحو التسلّط فانقلب الأمر إلى نفوذ فرديّ أو نفوذ كتلة على حساب البقية. (تقرير بوصلة وشهادات عدد من النواب). بيد أنّ تجربة إدارة الغنوشى للمجلس سرعان ما جعلته فى بؤرة التحديق والانتقاد فانفلتت رقابته على صورته ولم يعد قادرا على التحكّم فيها لاسيما إذا كانت من تتعمّد إهانته امرأة صاحبة دهاء سياسى لا يقلّ عن دهائه. فصار الشيخ صاحب المكانة الرفيعة فى مرمى «القصف» وأمام أنظار العالم لا يملك من أمره إلاّ قطع صوت الشاتمة وتغيير خطط المواجهة.
ويشير مسار بناء صورة الغنوشى إلى الديناميكية إذ لا ثبات ولا ثوابت ولا تحقّق لصفات ترشحه ليكون من الشخصيات الكارزماتية بل إنّه سمح للتونسيين أن يدركوا أنّ تدبير المجلس قام على استحضار أطر الجماعة وتجربة إدارة مجلس الشورى، وأنّ فهمه للحكم والسلطة والديمقراطية يؤبد معنى أنّها آليات للتمكين السياسي/الاجتماعى، وأنّه حين عجز عن إدارة الاختلاف/المعارضة لجأ إلى ممارسات مألوفة فى «النظام السابق»: الإقصاء وتدبير أشكال العزل من خلال التلاعب بالقانون، ولم يستطع «الرئيس» فهم وظائف مؤسسات الدولة وشروط العمل داخلها ولا التفاعل مع الإكراهات الجديدة ولا احترام القانون والعمل على تطبيقه وتحويله إلى ثقافة.
وإذا كان «الإسلام قد جاء برسالة إصلاحية شاملة» فإنّ الغنوشى عجز عن الظهور فى لبوس «المصلح النهضاوي» ولم يتمكّن من إعطاء ديناميكية جديدة للعمل السياسى و«شرعيّة الأداء». فكان مثل غيره حريصا على السلطة بوصفها، من منظوره، امتلاكا لأجهزة السيطرة وآلية للهيمنة.
وما لم يتدارك الرجل أمره «وينقّى» صورته فإنّه سيكون حلقة أخرى من حلقات تجارب الإخفاق ذات طعم الحنظل.