العالم بين مطرقة الانكماش وسندان التضخم.. الجزء الثاني: التضخم
محمد الهوارى
آخر تحديث:
السبت 16 مايو 2020 - 10:32 م
بتوقيت القاهرة
فى الجزء الأول من المقال استعرضنا المرحلة الأولى من الأزمة الاقتصادية التى تسبب فيها فيروس الكورونا وعنوانها الانكماش وهو ما يعرف بالإنجليزية بكلمة Deflation وكيف ساعدت حالة الاقتصاد العالمى فى السنوات السابقة على تضخيم الأزمة من الناحية الانكماشية، فى هذا الجزء، سنستعرض الوجه الآخر من الأزمة وهى مرحلة التضخم Inflation أو ــ فى أسوأ أحواله ــ الركود التضخمى Stagflation.
مع ظروف العالم فى السنوات السابقة والتى ذكرناها فى الجزء الأول من المقال وكذلك الظرف الاستثنائى لفيروس الكورونا، وجدت البنوك المركزية والحكومات نفسها فى مارس ٢٠٢٠ فى موقف لا تحسد عليه، فإما الرضوخ لقوى الانكماش وعندئذ يجد العالم نفسه فى موقف مشابه لركود عام ١٩٢٩ أو محاولة سد الفجوات وتخليق طلب عن طريق ضخ سيولة فى السوق وكذلك ضخ منح؛ وسنسمع عن المزيد من هذه المنح فى العالم المتقدم فى الفترة القادمة بالتأكيد وخاصة ونحن بصدد الانتخابات الرئاسية فى الولايات المتحدة فى نوفمبر من العام الحالى، كل ذلك جعل الكثير من الاقتصاديين يتوقعون موجة تضخمية كبيرة ولكن هناك عيبا فى ذلك التوقع، فالتضخم هو معادلة اقتصادية تعتمد على عنصرين: السيولة وسرعة انتقالها، السيولة وهى Money Supply ويشير إليها الاقتصاديون باختصار M2 ثم هناك العامل الآخر وهو سرعة انتقالها Velocity of Money.
الشرح المبسط لذلك هو أننى كبنك مركزى من الممكن أن أطبع ثم أوزع عليك أموالاً (فى أى صورة: قرض أو منحة عن طريق الحكومة أو غير ذلك) وبذلك أكون قد أضفت لحجم السيولة فى السوق مما يجعل الاقتصاد نظرياً عرضة للتضخم. ولكن سرعة انتقال هذه الأموال فى السوق يعتمد على الجهة التى تتلقى هذه السيولة الإضافية. فإذا قررت هذه الجهة وضعها "تحت البلاطة" فهي بذلك تتوقف حركتها تماماً، أما اذا قررت صرفها مثلاً لمقاول ليقوم بالبناء،ثم اشترى المقاول خامات، ثم قام تاجر الخامات بسداد مستحقات المصنع فستكون هذه الجهة قد أسرعت من حركة انتقال السيولة في السوق خالقة مع الوقت حركة تضخمية. ولدينا تجربة حديثة مماثلة لما سوف يحدث، ففى خلال السنوات العشر الماضية اعتمدت البنوك المركزية فى سياساتها التوسعية على أسواق المال فى ضخ السيولة وبذلك ذهبت أغلب هذه السيولة لمستثمرين لا يحتاجون لصرفها، فكانوا يضعونها فى استثمارات مثل أسهم فى شركات وهذه الشركات تقوم بإعادة شراء أسهمها لتعظيم قيمة السهم مما يقتل سرعة انتقال الأموال وتسبب ذلك فى مشكلتين:
١ــ كبح جماح التضخم أكثر مما استهدفت البنوك المركزية مما أضر بحجم النمو الاقتصادى. مثلا مزارع الذرة الأمريكى الذى كان من المفترض أن ترتفع قيمة محصوله بنسبة ٥٠٪ على مدى عشر سنوات، اليوم يبيع محصوله بنفس ثمنه فى السبعينيات مما يعنى افتراضيا أنه اليوم يمتلك أصلا منتجا قيمته مماثلة لقيمته منذ خمسين عاما. أثر ذلك على المجتمعات مدمر على المدى الطويل. المشكلة فى رأيى أننا نعيش حاليا هذا المدى الطويل أى أننا سنرى الأثر فى القريب العاجل.
٢ــ اتجه التضخم فى المقام الأول إلى الأصول الورقية (الأسهم والسندات إلخ) مما تسبب فى ارتفاع أسعارها فوق قيمتها الحقيقية بكثير وبالتالى تعاظمت الفجوة بين الشريحة العليا من المجتمع التى تمتلك الأصول الورقية وبين الشرائح الأخرى، فى مقال لى فى شهر إبريل الماضى بعنوان «موت العاقبة الأخلاقية» استهجنت برامج الحماية التى انتهجتها البنوك المركزية فى العالم المتقدم وفى مقدمتها البنك الفيدرالى الأمريكى؛ حيث إنها افتقرت فى معظمها لهذه الحساسية وستتسبب فى تفاقم العديد من المشكلات خاصة مشكلة الفجوة بين شرائح المجتمع التى ستصل قريبا جدا لمرحلة ستتسبب بالتأكيد فى قلاقل اجتماعية واقتصادية وسياسية عالمية.
توقعى أن البنوك المركزية والحكومات فى العالم المتقدم ستستمر فى إعطاء شحنات إضافية للاقتصاد وخاصة للأسواق فى السنوات القادمة، ولا نعلم بالضبط إلى أين تذهب بنا هذه التجربة. ولكنى أراهن على نوبات متقطعة من الركود التضخمى تشبه ما عاناه العالم فى السبعينيات ولكن هذا التضخم سيكون انتقائيا ولن يكون عاما وذلك بسبب ضعف قنوات توصيل المعونات وانحسارها فى بعض القنوات الضيقة التى لا تصب فى الاقتصاد بالكامل؛ مع التأثيرات العشوائية لتغيير سلاسل التوريد العالمية Global Supply Chains. وسيتولد عن ذلك بالضرورة قلاقل قد تكون منتظمة (عن طريق انتخابات وتغير التوجهات السياسية) أو خارج القنوات النظامية (مظاهرات وما شابهها) ستجعل العالم بالتأكيد يبدو مختلفا فى السنوات العشر القادمة، أنا لست وحدى فى هذا التوقع، فمعى كوكبة من ألمع رجال الأعمال والاقتصاديين منهم على سبيل المثال «لارى فينك» العضو المنتدب لبلاك روك أكبر شركة ادارة استثمارات فى العالم والشريك الأول للبنك الفيدرالى الأمريكى فى إدارة عدد من برامج الدعم التى أطلقها أخيرا، توقع فينك فى لقاء (هاتفى طبعا) فى أوائل مايو أن يتأثر الاقتصاد بتدهور حالة القدرة الشرائية للمستهلك مع ازدياد مطرد فى حالات الإفلاس خاصة للشركات الصغيرة ويتلو ذلك ازدياد فى نسبة ضرائب الدخل فى أمريكا إلى ٢٨ــ٢٩٪ من ٢١٪ حاليا وذلك لسد فجوة الانفاق مقابل الواردات المالية للدولة.
تتدخل الحكومات والبنوك المركزية لإنقاذ العالم من ركود مماثل لعام ١٩٢٩ ولكن قوى التطور الانتقائى الاقتصادية مثل نظرية التطور والنشوء أقوى من أى حكومة. دخل العالم فى موجة «تطهير اقتصادى» لن تنتهى إلا مع بقاء الأصلح فقط أيا كان حجم الدعم الحكومى. هى موجة كما قلت أتوقع أن تستمر لعشر سنوات بين فترات صحوة وتضخم مؤقتة وأوقات انكماش مؤقت. وسيكون الأصلح من يدير ماليته واستثماراته بوعى وحنكة ويبدى الملائة المالية على أى شىء آخر، وينطبق ذلك على الأفراد والحكومات والشركات. وعليه أرجو أن تنتبه الحكومة أننا نتجه إلى واقع جديد New Normal وتعيد النظر فى خططها طويلة الأمد بناء على هذا الواقع وكلى أمل أن نخرج من هذه الفترة باقتصاد يحتذى به على مستوى العالم. هذه الأزمات هى التى تخلق النمور الاقتصادية ونحن لدينا الامكانيات فأرجو أن نستغل الفرصة.