أبونا وليم الذي خذلته البيروقراطية
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 16 مايو 2023 - 8:35 م
بتوقيت القاهرة
كثير من المصريين لا يعرفون الأب وليم سيدهم اليسوعى الذى فقدته مصر هذا الأسبوع ومن حسن حظى أننى عرفته واقتربت منه طوال أكثر من 15 عاما حيث كنت أنتظر فرص اللقاء معه لأتعلم منه وأتأمله كرجل دين لا يستهلك جهده فى العظة بل قدم تطبيقا عمليا لدور الدين فى عملية التغيير.
لم يكن اسم جمعية النهضة العلمية التى رأسها لعدة سنوات مجرد مصادفة وإنما هو اختيار دال على هذا الفهم العميق لدور الدين فى المجتمعات الفقيرة، فالهدف الأسمى لأى دعوة الارتقاء بالناس، وتحسين أحوالهم، وليس فقط ترهيبهم من الدنيا وترغيبهم فى الدين.
ولد الأب وليم فى قرية جراجوس التابعة لمركز قوص فى قنا، وهى قرية تشتهر بصناعة الخزف، وتلقى فيها تعليما كنسيا فى مجتمع فقير لكنه ظل مجتمعا متجانسا أبعد ما يكون عن الطائفية.
ثم خرج من قريته للمرة الأولى لدراسة الفلسفة فى جامعة القاهرة ومثل الأب جورج شحاتة قنواتى، تأثر الأب وليم كثيرا بأفكار الفيلسوف العربى ابن رشد، ووجد ضالته عنده فهو من قال «أن الحق لا يضاد الحق الذى خلق العقل الإنسانى هو الله».
واعتمد فى قراءته على القراءات المتميزة التى قدمها قنواتى لفلسفته وانشغل أيضا بالمواجهة بين العقل والنقل وانحاز للتأويل على حساب التفسير وتعمق فى دراسة التاريخ فأدرك تماما محنة المفكر، كما أدرك محنة رجل الدين والفيلسوف فى أزمنة التحول.
قضى وليم سنوات شبابه فى دراسة الفلسفة فى فرنسا فى وقت كان للحركات الشبابية دور كبير أعقب ثورة 1968 الطلابية التى دفعت كبار الفلاسفة لإجراء مراجعات كبيرة، وشاهد هناك أفول الأفكار الوجودية واهتزاز مكانة سارتر وتابع صعود الأفكار البنيوية وما بعدها ورأى تمدد أفكار ميشيل فوكو عن المراقبة والعقاب وعمق تحليلاته للمؤسسات الاجتماعية، وتأمل طويلا أفكاره حول السلطة والعلاقة بينها وبين المعرفة، إضافة إلى أفكاره عن «الخطاب» إلا أنه انشغل أكثر بما كان يطرحه فيلسوف غربى آخر هو يورجن هابرماس فى شأن مكانة الدين فى المجتمعات الحديثة وتوقف طويلا أمام رؤاه بشأن آليات خلق المجال العام.
ولأنه كان ابن سياق ثقافى وفكرى متكامل فقد كان منجذبا لكثير من الأفكار اليسارية التى اختمرت فى مجتمعات أمريكا اللاتينية فى شأن المواءمة بين الثورة وبين الدين وأفرزت بعض التجارب التحررية التى عرفت بلاهوت التحرير والتى جمعت بين الكاثوليكية واليسار وهى تجربة تولع بها وأمدته بالكثير من الأفكار التى ظلت فى عقله مثل ومضة مؤجلة لم يشأ أن يحولها إلى قناديل.
واهتم خلال الدراسة بالتراث العقلى للفلسفة العربية الإسلامية والتراث الفلسفى المسيحى وخص كارل ماركس بمكانة كبيرة وارتقى به لمكانة (القديس) لأنه من وجهة نظره كان مهموما بتحسين أوضاع الفقراء.
عاد أبونا عقب دراسته لكنه لم يقم فى مصر طويلا فقد ذهب للخدمة اليسوعية فى لبنان خلال الحرب الأهلية ولمس هناك آثارها بصورة عملية وحين عاد إلى مصر وجدها تدخل نفقا مظلما وتشهد مواجهة مسلحة مع جماعات الإرهاب الدينى وشاهد كيف تنمو الطائفية فى قرانا البعيدة؛ لذلك كان حريصا كل الحرص على أن تكون المواجهة معها مواجهة فكرية قبل أن تكون أمنية وعمل مع الأب الراحل فايز على أن تكون جمعيات ومدارس الجزويت منصات مواجهة لكافة الافكار والرؤى الطائفية وحرصا معا على أن تستقبل الجزويت العروض السينمائية والمسرحية والأمسيات الفكرية وورش التدريب على جميع الفنون وتكونت رؤاه على نحو عملى فى شأن أهمية الثقافة والفن وتشهد مقالاته التى كتبها فى عدة مجلات دينية على رغبته فى خلق جذور للفكرة تستند على تأويلات دينية وعقلية ومنها ما كتبه فى مجلة الصلاح وصديق الكاهن ورسالة الكنيسة ومجلّة المسرّة والمشرق (بيروت) وكذلك فى صحيفة الأهرام وهى مقالات كشفت قبل كل شىء عن انشغاله بالمجال العام، فلم يمارس دوره كرجل دين بمعزل عن القضايا العامة ظلت دعوته للعدالة الاجتماعية راسخة لم تهتز، كما لم يتوقف عن تأكيد دعوته بأن لاهوت التحرير منهج مفيد للعمل فى مصر، فمهمة السياسى والمثقف ورجل الدين واحدة وهى العمل مع المستضعفين فى الأرض وإنصاف الفقراء.
تبنى أبونا فى سياساته داخل مؤسسات الجزويت الكثير من أفكار باولو فريرى المعلم البرازيلى صاحب كتاب (تعليم المقهورين) الذى نظر للتعليم كممارسة للحرية ومن يراجع تجربته سيجد الكثير من أوجه التشابه بينه وبين فريرى.
خلال أقل من 15 عاما حول أبونا الجزويت وجمعية النهضة إلى مؤسسة ثقافية وفنية متكاملة كانت أقرب إلى حضانة مواهب ورئة تجدد وجدان القاهرة.
آمن الراحل مبكرا بقوة ثقافة الصورة ووقف بطاقته كلها وراء تأسيس مدرسة الرسوم المتحركة ومدرسة السينما ثم مجلة الفيلم وتوسع فى عروض مسرح ناصبيان الموسيقية والمسرحية وافتتح قبل شهور من موته قاعة التشكيل وأشرف على اقامة سمبوزيوم لنحت الخردة.
وفى تقديرى أن روحه تسرب إليها العطب حين أدرك تخاذل الكثير من المؤسسات الرسمية عن مساعدته وفى لقاء أخير كان بيننا قبل شهرين ذكر لى أسماء مسئولين تخلوا عنه ولهذا السبب لمس الرجل عجزه عن استعادة مسرح الجزويت الذى احترق وترك فى قلبه الكثير من الندوب التى عجز عن مقاومتها فآثر أن يهزمه الموت بدلا من أن تهزمه البيروقراطية.