كل العالم ضدنا!
يحيى عبدالله
آخر تحديث:
الخميس 16 مايو 2024 - 8:35 م
بتوقيت القاهرة
ينتفض الطلاب فى جامعات النخبة بالساحل الشرقى للولايات المتحدة الأمريكية، أو ما يُعرف باسم الـ«آيفى ليج» [رابطة جامعات النخبة الثمانى الخاصة: براون، وهارفارد، وييل، وبنسلفانيا، وكولومبيا، ودارتموث كوليج، وبرينستون، وكورنيل] وفى غيرها من الجامعات الأمريكية والجامعات الكبرى بالعالم ضد حرب الإبادة التى يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلى ضد رجال ونساء وأطفال قطاع غزة، منذ نحو سبعة أشهر، وضد سياسة «الأبارتهايد»، التى تمارسها إسرائيل فى المناطق الفلسطينية المحتلة، فى الضفة الغربية، حيث تسيطر على مناطق مأهولة بسكان فلسطينيين وتقيم فيها مستوطنات يهودية بحتة، دون أن تمنحهم، وهم السكان الأصليون، حقوقا مدنية أو الحق فى تقرير المصير، وهو ما حوَّلها إلى نظام شبيه بنظام الفصل العنصرى، على الأقل فى جزء منها، منذ ما يزيد على خمسين عاما، كما يقول البروفيسور شلومو زند فى كتابه: «عرق متوهم - موجز تاريخ كراهية اليهود» (ترجمة؛ كاتب هذه السطور، والدكتورة أميرة عمارة، إصدار: مدارات للأبحاث والنشر، الجيزة، يناير 2024م).
ينتفضون ضد الاستيطان الفاشى الدينى، المصحوب، دائما بالعنف، وضد سياسات الحصار والتجويع، وضد تجريد الشعب الفلسطينى من آدميته، وضد سد كل الآفاق فى وجه إمكانية إقامة دولة لهم، وضد انحياز الإدارة الأمريكية إلى إسرائيل فى حربها ضد غزة ودعمها عسكريا [إقامة جسر جوى وبحرى لتزويدها بالأسلحة والذخيرة شمل 350 رحلة جوية و50 رحلة بحرية، منذ بداية الحرب وحتى الآن، فضلا عن إرسال حاملات الطائرات إلى المنطقة لتحييد بعض القوى الإقليمية وردعها عن المشاركة فى الحرب، والتصدى لهجمات الحوثيين فى البحر الأحمر، والتصدى للهجوم الإيرانى على إسرائيل ليلة الثالث عشر- الرابع عشر من أبريل عام 2024م، وغيرها من أشكال الدعم العسكرى]. ودعمها ماديا [أقر الكونجرس الأمريكى حزمة مساعدات مالية لإسرائيل بقيمة 14 مليار دولار، فى شهر أبريل 2024م، دعما لها فى حربها على غزة]، ودعمها سياسيا [استعملت الولايات المتحدة الأمريكية حق النقض/الفيتو ثلاث مرات فى مجلس الأمن الدولى منذ السابع من أكتوبر2023م ضد مشروعى قرار لوقف الحرب فى غزة وضد مشروع قرار لإرسال بعثة تقصى حقائق إلى الأراضى الفلسطينية للتحقيق فى جرائم الحرب التى ارتكبتها إسرائيل خلال عدوانها على غزة]. انتفض الطلاب أيضا ضد تعاون المؤسسات الأكاديمية الأمريكية مع نظيرتها الإسرائيلية خاصة فى مجالات تطوير بعض الأسلحة كالمسيَّرات، وضد استثمار هذه الجامعات لأموالها فى إسرائيل التوسعية العدوانية.
• • •
هذه هى الأسباب الحقيقية التى من أجلها تنتفض الجامعات الأمريكية؛ وهى احتجاجات تعيد إلى الأذهان احتجاجات الطلاب فى الجامعات الأمريكية فى الستينيات من القرن الماضى من أجل حقوق المواطن، وضد حرب فيتنام، وهى ليست حدثا عابرا، وإنما إعصار فعلى، بحسب تعبير، تسفيكا كلاين، رئيس تحرير «جيروزاليم بوست». يعزو الدكتور، دافيد باراك، فى «معاريف»، أسبابها، إلى التطورات الثقافية والاجتماعية التى أدت إلى تحويل إسرائيل إلى دولة منبوذة بالجامعات الأمريكية، ومنها التعاون بين النظريات النقدية بها، خاصة حوار ما بعد الكولونيالية، وأنصار للقضية الفلسطينية نجحوا فى عرض الكفاح الفلسطينى.
تعرض المحتجون السلميون لاعتداءات، فى بعض الجامعات، من جانب عناصر موالية لإسرائيل، وهو ما وثقه تحقيق صحفى أجرته صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية عن الاحتجاجات فى جامعة كاليفورنيا. أجرت الصحيفة فحصا لأكثر من 100 فيلم عن المواجهات بالجامعة، بدا فيها المتظاهرون المؤيدون لإسرائيل وهم يهاجمون طلابا مؤيدين للشعب الفلسطينى، فى إحدى الخيام التى اعتصموا فيها، لمدة بضع ساعات، ضربا بالهراوات، ورشا بمواد كيميائية، وإلقاءً لألعاب نارية عليهم. تواصل الهجوم حتى عندما وصلت قوات الشرطة إلى المكان، التى لم تتدخل بالمرة، بحسب الصحيفة، بل إن سلطات القانون حذرت المتظاهرات والمتظاهرين المؤيدين للشعب الفلسطينى من أنهم إذا لم ينهوا الاعتصام فسوف يجرى اعتقالهم، وبالفعل نفذت تهديدها وفضت الاعتصام واعتقلت أكثر من 220 شخصا.
وعلى الرغم من انحياز بعض إدارات الجامعات ضد الأساتذة والطلاب المحتجين المؤيدين للشعب الفلسطينى فإنها لم تسلم من اتهامات النخب الإسرائيلية، إذ اتهم البروفيسور، إيلان جلبواع، المتخصص فى الشأن الأمريكى، الجامعات الأمريكية «بالفشل فى توفير حماية للطلاب وللمحاضرين اليهود والإسرائيليين»، كما اتهمت الرئيس الأمريكى، جو بايدن، بالفشل فى مكافحة ما أسمته «العداء المتصاعد للسامية»، وبأنه «يطلق تصريحات ويقوم بأفعال تتطرق، فى الوقت نفسه، إلى طرفى النزاع فى غزة. فهو يعمل من أجل الحصول على موافقة الكونجرس الأمريكى على المساعدات المالية الخاصة لإسرائيل، من ناحية، ويخطط، من ناحية ثانية، لفرض عقوبات غير مسبوقة على بعض الوحدات العسكرية بالجيش الإسرائيلى (على كتيبة: «نيتسح يهودا» التى تعمل فى الضفة الغربية المحتلة)، وهو يدين الاحتجاجات الطلابية فى الجامعات الأمريكية ويصفها بأنها «معادية للسامية»، ويدين، فى الوقت نفسه، أيضا، أولئك الذين لا يتفهمون ما يمر به الفلسطينيون والفلسطينيات فى هذه الأيام.
يربط، إيلان جلبواع، ازدواجية موقف بايدن بوضعه فى استطلاعات الرأى الخاصة بالانتخابات الرئاسية القادمة بالولايات الأمريكية المتذبذبة، التى لا تصوت، فى الأغلب الأعم، للحزب الديمقراطى أو الجمهورى: «هناك اليوم سبع ولايات من هذا النوع: أريزونا، وجورجيا، وميشيجان، ونيفادا، وكارولينا الشمالية، وويسكونسين، وبنسلفانيا، يتقدم فيها عليه منافسه، دونالد ترامب، وبفارق كبير يصل، فى بعضها، إلى 10%، ويقول أفراد حملته الانتخابية إنه سيخسر الرئاسة إذا استمر فى دعم إسرائيل». لا تكتفى النخب الإسرائيلية بكيل التهم إلى بايدن وإدارته، وإنما تساومه على الصوت اليهودى فى الانتخابات الرئاسية القادمة، وتحرضه ضد الاحتجاجات الطلابية بشكل سافر: «إذا استمر بايدن فى مهادنة التقدميين، والمسلمين، والشباب ولم يفعل شيئا ضدهم فيما تبقى من وقت حتى موعد الانتخابات القادمة فى نوفمبر القادم، فسيخسر جزءا من الصوت اليهودى أيضا».
• • •
تتواكب حملة الأكاذيب والاتهامات الباطلة التى تتبناها النخب الإسرائيلية مع نغمة من البكائيات الصهيونية المعتادة، ومع حيلة تقمص دور الضحية، ومع إشهار التهمة الممجوجة «معاداة السامية» فى وجوه الطلاب، الذين يشاركهم حتى بعض اليهود الأمريكيين احتجاجاتهم؛ وهى حيلة تنقل المعركة إلى أرض الخصم وتربك حساباته، وتضعه فى موقف دفاعى. لهذه الحيل، التى تتهم العالم كله بمعاداة اليهود، جذور فى التراث التوراتى، كما فى سفر إستير(3،8): «فقال هامان [رئيس بلاط الإمبراطور الفارسى] للملك أحشويروش [إمبراطور فارس]: «إنه موجود شعبٌ ما [اليهود] متشتت ومتفرق بين الشعوب فى كل بلاد مملكتك، وسُننهم مغايرة لجميع الشعوب، وهم لا يعملون سُنن الملك، فلا يليق بالملك تركهم. فإذا حَسُن عند الملك فليكتب أن يبادوا»؛ ولهذه الحيل جذورٌ فى الأدب الصهيونى، أيضا، تعبر عنه الأغنية - القصيدة الشهيرة: «كل العالم ضدنا»، التى ألفها أحد كبار الشعراء ومؤلفى الأغانى الوطنية فى إسرائيل [يورام طهر ليف 1938- 2022م]، التى تقول كلماتها: «كل العالم ضدنا/ لحنٌ قديم جدا/ علَّمَنا إياهُ آباؤنا/ كى نغنيه ونرقصه/ هم رقصوا على أنغامه رقصة الهورا [رقصها شعبية سرقها المهاجرون الصهاينة قبل قيام إسرائيل من دول البلقان، وجعلوا منها طقسا صهيونيا؛ وربما يعود أصلها إلى رقصة الهوَّارة الشعبية الصعيدية]/ لن نسكت نحن أيضا/ هوب إلى الأمام، هوب إلى الخلف!/ إمَّا فالس [رقصة ألمانية الأصل يؤديها اثنان] وإمَّا كزتشوك [رقصة قوقازية الأصل سريعة الإيقاع، شائعة فى أوكرانيا وروسيا]/ كل العالم ضدنا/ لا بأس، سنتغلب على ذلك/ لا يأبه بنا على الإطلاق/ لا بأس، سنتدبر أمرنا/ كل العالم ضدنا/ نحن أيضا/ لا نأبه به!/ من أعظم من هرتسل؟/ قال للمؤتمر [الصهيونى الأول فى بازل بسويسرا عام 1897م]: «الأمر ممكن مع الإرادة والسعى» [أى أمر إقامة دولة يهودية]/ عندما بدأ كل الرفاق/ يتشككون ويترددون/ أخذ الهارمونيكا/ وعلَّم المؤتمر: كل العالم ضدنا/ لا بأس، سنتغلب/ لا يأبه بنا على الإطلاق/ لا بأس، سنتدبر أمرنا/ كل العالم ضدنا/ لا بأس، سنتغلب/ نحن أيضا/ لم نعد نأبه!/ هذه الأغنية علَّمَنا إيَّاها/ آباؤنا من الشيوخ/ سنغنيها نحن أيضا/ وسيغنيها من بعدنا الأبناء/ وأحفاد الأحفاد/ هنا فى أرض إسرائيل/ وليذهب كل من هو ضدنا/ إلى الجحيم!».
تلخص القصيدة الرؤية الصهيونية لكل العالم. لا تستثنى أحدا؛ وهى ترجمة لمقولة، دافيد بن جوريون، مؤسس إسرائيل، خلال خطاب ألقاه أمام جنود الجيش الإسرائيلى عام 1955م: «لا يرتبط مستقبلنا بما يقوله الأغيار، وإنما بما يفعله اليهود».